كاينابريس – د. سعيد الحاج(*)
بعد مرور زهاء شهر ونصفٍ على بدء العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة، ما زال الاحتلال غير قادر على تقديم صورة نصر ولو مزعومًا في القطاع؛ رغم ما اقترفه فيه من مجازر وجرائم حرب، كما أن هذه الأخيرة لم تستطع إجبار سكان القطاع على الهجرة؛ ما أفشل حتى اللحظة مشروع التهجير. صمود شعبي وعسكري للمقاومة يحمل الكثير من الدلالات ويضع على الجميع مسؤوليات محددة.
خطط الاحتلال
منذ اللحظات الأولى لتخطيط عدوانها على قطاع غزة، أعلنت سلطات الاحتلال عن أهداف ذات سقف مرتفع جدًا بخصوص قطاع غزة والمقاومة فيه، وخصوصًا حركة حماس. كان الهدف المعلن للعدوان يدور حول اجتثاث حركة حماس وذراعها العسكرية كتائب القسام تمامًا، وإعادة احتلال القطاع، وفرض واقع سياسي جديد بعد الحرب، وإطلاق سراح جميع الأسرى لدى المقاومة دون قيد أو شرط.
إضافة لذلك، وبما يتناغم معه، فقد صدرت تصريحات عن القيادات “الإسرائيلية” بضرورة إفراغ قطاع غزة من السكان وانتقالهم للعيش في سيناء في مصر، وهو أمر تبنّته بشكل واضح الإدارة الأميركية، وسعى وزير خارجيتها أنتوني بلينكن في جولاته الإقليمية لإقناع دول المنطقة به، وهو ما لم ينجح فيه حينه.
وإذا كانت الأهداف العسكرية للاحتلال قد تراجعت بشكل لافت مع الوقت تحت ضغط المقاومة الفلسطينية- فتحول الاجتثاث إلى إضعاف قدرات حماس وتحجيم قدرتها على التهديد وشن العمليات في المستقبل، وتحول إطلاق سراح الأسرى إلى تحرير أكبر عدد ممكن منهم ثم إلى التعامل مع ملفهم، ثم إلى الإقرار صراحة بضرورة عقد صفقة تبادل- إلّا أن خُطة التهجير في المقابل ما زالت قائمة وضمن الخيارات وإن تراجع تداولها في الإعلام.
فقد تراجعت الإدارة الأميركية، تحديدًا، عن هذا الطرح بسبب الرفض الصريح والحاسم لمصر وباقي الدول العربية التي اجتمع معها بلينكن وَفق المعلن، ولكن أيضًا بسبب صمود الناس في أماكنها واستبسال المقاومة بشكل لم يكن متوقعًا أميركيًا، وقد صدرت تصريحات من الرئيس الأميركي بضرورة بقاء سكان غزة في القطاع. ورغم ذلك، يمكن القول: إن هذا الخيار ما زال مطروحًا بالنسبة للاحتلال، وهذا ما يدعمه الموقف الميداني.
ذلك أن الاحتلال ركز على شمال قطاع غزة حصارًا وقصفًا وتدميرًا؛ بهدف إجبار الناس على الانتقال للجنوب الذي أعلن أنه “آمن”، وأعلن أكثر من مرة عن انتقال القسم الأكبر من سكان الشمال للجنوب، فيما بدا وكأنه المرحلة الأولى من الخطة. بينما يدخر مرحلة ثانية للجنوب لإجبار الناس حينها على الهجرة خارج الحدود نحو مصر من معبر رفح، حيث يخطط لأن يكون المنفذ الوحيد المتاح لهم للخلاص من آلة القصف والحصار والتجويع.
الصمود
رغم كل ما سبق- بما في ذلك قتل كل إمكانية للحياة في شمال قطاع غزة على وجه التحديد مثل قصف المستشفيات، وإخراجها من الخدمة، والمخابز ودور العبادة والطرقات والمدارس التابعة للأمم المتحدة ودور الإيواء وغير ذلك، وعدم السماح بدخول أي مساعدات إلى هناك، بما حمل رسالة واضحة بأن المنطقة لم تعد ولن تكون صالحة للحياة- لم تكن النتيجة كما خطط الاحتلال، وكما يمكن أن يكون التوقع المنطقي.
ففي السابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري- أي بعد 40 يومًا كاملة من العدوان الشامل- قال الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني: إنَّ 400 ألف شخص فقط من أصل 1.2 مليون شخص كانوا يسكنون محافظتَي الشمال قبل العدوان قد نزحوا إلى المحافظات الأخرى في الوسط والجنوب، وإن 807 آلاف شخص ما زالوا حتى اللحظة يعيشون في محافظتي غزة وشمال غزة، ما يدحض الدعاية “الإسرائيلية” بأن الشمال قد فرغ من السكان المدنيين.
وفق الحسابات المادية والمنطقية، يبدو هذا الصمود خارج أطر المعقول، ويحيل على صمود أسطوري واستثنائي بدون أدنى مبالغة. ففي بقعة جغرافية ضيقة، محاصرة بالكامل- ممنوع عنها دخول الغذاء والماء والدواء، وغير ذلك من مقومات الحياة الأساسية زهاء شهر ونصف، وهي تُمطَرُ بكل أنواع الموت من الصواريخ والقذائف والحمم- من الصعب تصور التشبث بالمكان الذي يعني انتظار الموت قتلًا أو نزفًا أو جوعًا. ومن البديهي أن ذلك لم يكن ما توقعه الاحتلال الذي ضرب بكلّ القوانين الدولية عُرض الحائط، بما في ذلك أعراف الحرب، وارتكب عددًا غير محدود من جرائم الحرب، بما يمكن أن يرقى لجريمة الإبادة الجماعية، في سبيل تحقيق نصر سريع وحاسم عسكريًا على المقاومة، وديمغرافيًا من خلال تهجير الناس.
إفشال سكان القطاع- وخاصة سكان شماله- مخططَ الاحتلال حتى اللحظة لا ينفي المأساة الإنسانية الكبيرة، والحديث عن الصمود لا يلغي المعاناة الاستثنائية التي يواجهها الناس هناك دون أدنى مؤشر على قرب الفرج وفك الحصار عنهم أو إجبار الاحتلال على الإيفاء بالتزاماته كقوة احتلال بالحد الأدنى.
من جهة ثانية، مرَّ شهر ونصف دون أن يستطيع الاحتلال أن يقدم صورة “نصر” واحدة ولو ادعاءً، بينما تكبد خسائر كبيرة جدًا- تفوق ما يضطر لإعلانه- في الجنود والضباط والعتاد والآليات، وبإحراج إعلامي واضح بسبب توثيق المقاومة عملياتها ومصداقيتها المكتسبة في هذا المجال، إضافة لمعنوياتها العالية، فيما يصدر عنها من تصريحات، ومؤشرات سلامة بنيتها العسكرية وقدرتها على السيطرة وإدارة المعركة، ولعلّ الإعلان عن صفقة تبادل الأسرى، ما يعزز هذا التقييم إذ يحمل دلالة خضوع الاحتلال في هذا الجانب.
دلالات ومسؤوليات
في مقدمة الدلالات الواضحة لهذا الصمود أن المقاومة قد أعدت عدتها بشكل ملحوظ لمعركة من هذا النوع، وبنفَس طويل عسكريًا ولوجستيًا وإعلاميًا، وأن الفلسطينيين من سكان القطاع متمسكون بأرضهم، واثقون بمقاومتهم، مستفيدون من دروس الماضي، بما أنتج لديهم إصرارًا على عدم تكرار كارثة النكبة والتهجير القسري، رغم ما يعانونه من ظروف غير إنسانية، وما يتعرضون له من جرائم حرب.
لكن الصمود، من جهة ثانية، لا يقوم فقط على الإعداد المسبق، ولا على الإيمان والإصرار وحسب، بل له مقومات ينبغي تحصيلها وتعزيزها وإلا نفدت و/أو دمرت مع الوقت. وعليه، فإنه من المهم الإشارة إلى أن إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية تتحدث عن مقتل طفل كل عشر دقائق كمعدل؛ بسبب القصف “الإسرائيلي”، ما يعني أن عدّاد الوقت في غزة لا يحسب بالساعات والدقائق وإنما بالأرواح والدماء.
وعليه، يضع هذا المشهد الدول العربية والإسلامية أمام مسؤولياتها كدول شقيقة وصديقة، وكدول جارة، وكأطراف حريصة على الأمن القومي العربي والاستقرار في المنطقة، وكذلك كجهات حريصة على عدم استمرار المأساة الإنسانية، وإلا فإن الكثيرين سيعدون ذلك موقفًا متواطئًا وليس فقط متخاذلًا إزاء أهل غزة.
إن الأولوية الأولى لجميع الأطراف ينبغي أن تكون إدخال المساعدات للناس في شمال القطاع وجنوبه- بدون تمييز أو تسليم باشتراطات الاحتلال- بوقف إطلاق نار وإلا فبدونه، فذلك هو الواجب الإنساني من جهة، وهذا ما يمكن أن يعزز صمود الناس من جهة ثانية. وهنا، فسبعٌ وخمسون دولة عربية ومسلمة ستكون أمام اختبار أخلاقي كبير بعد اتخاذ القمة العربية – الإسلامية المشتركة قرارًا بكسر الحصار وإدخال المساعدات، وهو القرار الذي ما زال تطبيقه ينتظر، إذ لم يحدَّد به توقيت أو آلية تنفيذ.
وعلى الأطراف الباقية، من أحزاب سياسية وتيارات وحركات ونخب وشعوب وأفراد، ألا تكتفي بالحزن على المأساة الإنسانية والفخر بأداء المقاومة، وبالتالي البقاء في مدرجات المشاهدين والتصفيق من بعيد دعمًا أو استهجانًا، وإنما الانتقال سريعًا لحالة فاعلة وضاغطة باتجاه كسر الحصار وفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية كخطوة أولى تمثل الحد الأدنى من المطلوب.
فتح معبر رفح يجب أن يتحول لأولوية عمل لجميع الأطراف، لصنع حالة ضاغطة على الجهات المعنية والمسؤولة وذات العلاقة، مثل: الاحتلال والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وباقي المؤسسات الدولية، وكذلك الدول العربية والإسلامية، وفي مقدمتها مصر التي تملك قرار المعبر بالكامل.
فتحميل الاحتلال المسؤولية كاملة وإفراده بالضغط والمطالبات لا يستقيم في ظل التسليم برواية أنه لا يمكن فتح المعبر دون موافقته ولا يمكن تمرير إلا ما يقرّه ولا إخراج إلا من لا يعترض عليه. فمن يدعي أن هذا هو سقف موقفه وما يمكنه فعله تجاه حصار غزة ومعاناة أهلها- وهو غير صحيح بالتأكيد- يستحق الضغط، كما الاحتلال سواءً بسواء.
(*) طبيب وباحث فلسطيني