غدا الخميس سيتضح ما إذا استؤنفت أم لا مفاوضات صفقة الأسرى والمحتجزين بين حركة «حماس» وحكومة بنيامين نتنياهو بوساطة أمريكية مصرية قطرية.
استئناف المفاوضات من عدمه، سواء في الدوحة أو القاهرة، يأتي بعد تطورات مهمة لا يمكن إلا أن تلقي بظلالها وهي البيان الثلاثي الصادر في الثامن من هذا الشهر عن زعماء أمريكا ومصر وقطر، ثم بيان حركة «حماس» بعده بثلاثة أيام فقط وأخيرا ما أعلن مساء أمس الأول عن حادثتين أقدم فيها مقاتلون من الحركة مكلفون بحراسة المحتجزين الإسرائيليين بقتل أحدهم وإصابة اثنتين بجروح خطيرة.
واضح تماما تلك اللهجة الحازمة التي أرادها البيان الثلاثي حين اعتبر أن «الوقت قد حان وبصورة فورية، لوضع حد للمعاناة المستمرة منذ أمد بعيد لسكان قطاع غزة، وكذلك للرهائن وعائلاتهم. حان الوقت للانتهاء من إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن والمحتجزين» داعيا إلى «عدم إضاعة مزيد من الوقت، كما يجب ألا تكون هناك أعذار من قبل أي طرف لمزيد من التأجيل».
الرد جاء من حركة «حماس» بأنها قدمت في جولات مفاوضات عديدة «كل ما يلزم من مرونة وإيجابية من أجل تحقيق أهداف ومصالح شعبنا وحقن دمائه ووقف الإبادة الجماعية بحقه، وبما يفتح المجال لعملية تبادل للأسرى» لكن ذلك «قابله العدو بالرفض واستمرار المجازر بحق شعبنا، واستمر بالتأكيد على موقفه بأنه غير جاد بوقف دائم لإطلاق النار» مع إضافته «شروطا جديدة لم تكن مطروحة طوال عملية التفاوض، وذهب للتصعيد في عدوانه على شعبنا وارتكاب المزيد من المجازر، وصولاً لاغتيال رئيس الحركة القائد الشهيد/ إسماعيل هنية».
لا أحد يدري الآن ما إذا كان الوسطاء الثلاثة سيستجيبون أم لا لما طلبته الحركة في بيانها بتقديم «خطة لتنفيذ ما قاموا بعرضه على الحركة ووافقت عليه بتاريخ 2/7/2024، استنادا لرؤية بايدن وقرار مجلس الأمن، وإلزام الاحتلال بذلك، بدلاً من الذهاب إلى مزيد من جولات المفاوضات أو مقترحات جديدة» لكن الأكيد الآن أن الجميع بات على اقتناع بأن من يعرقل الصفقة ويحاول التسويف وتمطيط المفاوضات بلا فائدة هو نتنياهو، بدليل ما تم تسريبه من اعتراف وزير حربه بأن «إسرائيل هي سبب تأخير إبرام صفقة إعادة المختطفين».
إن هذا الأسلوب في المراوغة والتسويف والمماطلة ليس حكرا على نتنياهو بل هي علامة فارقة لنهج إسرائيلي كامل معتمد منذ عقود
العقدة هنا ليس في معرفة من يعرقل الصفقة ومن يبدي مرونة، فقد اتضح للداخل الإسرائيلي وللعالم كله أنه نتنياهو ولا أحد غيره، وإنما في إحجام الولايات المتحدة عن التحرك وفق هذا الاستنتاج الواضح مفضّلة البقاء في مربع الصياغات الهلامية عن «كل الأطراف» دون ممارسة أية ضغوط حقيقية على المسؤول الحقيقي التي تبقى دائما إلى جانبه بالمال والسلاح مع تبرير كل ممارساته، ليس فقط بالإحجام عن إدانتها حتى حين تعلّقت باغتيال هنية في طهران وإنما في التبني الدائم للسردية الإسرائيلية حتى وإن كانت عن قصف 8 مدارس تؤوي مدنيين وخاصة من النساء والأطفال في غضون عشرة أيام فقط.
وحين يرى نتنياهو كل هذه التعبئة العسكرية الأمريكية الضخمة إلى جانبه تحسّبا لأي رد عسكري محتمل من إيران فإن ذلك لا يمكن سوى أن يزيد في عجرفته إلى الحد الذي لا يرى في ضرورة لإنفاذ مواطنيه وجنوده من الأسر طالما أن هدفه هو ديمومة الحرب الذي تضمن له ديمومة المنصب الحامي من كل محاسبة ستودي به حتما إلى السجن بتهم فساد ورشوة.
كل ذلك يغطيه نتنياهو بتمطيط مفاوضات صفقة الأسرى والتضييق على صلاحيات وفده المفاوض إلى الحد الذي أوصل هذا الوفد إلى نفس القناعة التي وصل إليها الجميع من أن نتنياهو هو المشكل وهو العقبة.
ومع ذلك فإن هذا الأسلوب في المراوغة والتسويف والمماطلة ليس حكرا على نتنياهو بل هي علامة فارقة لنهج إسرائيلي كامل معتمد منذ عقود. وإذا كان هناك من يُسأل فعلا عن ذلك فهم بالتأكيد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ولاحقا السلطة التي انبثقت عن «اتفاق أوسلو» 1993 فقد أفنوا أعمارهم في مفاوضات لا طائل من ورائها ليصلوا إلى ما وصلوا إليه اليوم. حتى ما يتم الاتفاق بشأنه ويجري توقيع وثائقه، وأحيانا في مواكب رسمية احتفالية، نرى إسرائيل قادرة على الالتفاف عليه والتنكّر له وكأنه لم يكن، ثم تفرضه أمرا واقعا جديدا غير قابل للتغيير أو التعديل ولا حتى العودة إلى التفاوض بشأنه.
في جلسة جمعتني بالراحل الدكتور صائب عريقات مسؤول ملف المفاوضات في منظمة التحرير، وهو أكثر من خبر هذه المتاهة مع الإسرائيليين، قال لي مبتسما: «هؤلاء دوّخوا أنبياء ورسلا بأسلوب مفاوضاتهم المراوغ فكيف لا تراهم يفعلون ذلك أيضا بمن هم دونهم؟!».. ولهذا كله نستحضر ما ذكره القائد الفلسطيني التاريخي صلاح خلف (أبو إياد) الذي اغتيل في تونس عام 1991 حين قال بالحرف» مين ها الحمار في الدنيا اللي يفاوض، يوقف سلاحه ويرميه ويروح يفاوض؟!!». هل استوعب الجميع الدرس الآن؟