كان من المتصوّر، بالمنطق والبداهة، أن الاقتراب العربي من مجرم الحرب الصهيوني بنيامين نتنياهو وأركان حكمه سيصبح أقلّ بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله بوصفه مجرم حرب، غير أننا ننسى أن المنطق والبداهة لم يعد لهما مكان في الفعل السياسي العربي، ومن ثم حدث العكس، حيث زاد الإقبال، عربيّاً، على نتنياهو، وارتفعت حرارة التعاملات، وكأن “جبهة إنقاذ” قد تشكلت لحمايته من تداعيات حكم “الجنائية الدولية”.
منذ صدور القرار، ووتيرة أعمال الإبادة والتطهير العرقي في غزّة تتصاعد باضطراد لافت، وتتصاعد معها سخونة الاتصالات والتفاهمات العربية مع الاحتلال، إذ عاد رؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يتجوّلون في عواصم عربية، والحجّة مناقشة صفقة لوقف القتال في غزّة، أمر بها دونالد ترامب، وهدّد العرب بالجحيم إن لم يسترد الاحتلال أسراه من غزّة، قبل اقتحامه عتبة البيت الأبيض مجدّداً في بدايات العام الجديد. غير أن القاهرة، بوصفها الذراع الثانية في مشروع الوساطة الأميركية، لم تكتف باستقبال قيادات الموساد والشاباك بحفاوة، بل وجّهت دعوة عاجلة إلى رئيس الأركان الصهيوني، هرتسي هاليفي، للقاء لا يحتمل التأخير، قال عنه معلق صحيفة معاريف الإسرائيلية، آفي أشكنازي، إنه “لقاء الهزّة الارتدادية”، بعد زلزال سورية، وفصّل في تعليقه بأن معارضي الأنظمة في أرجاء الشرق الأوسط سيرفعون الرأس.
هذا يقلق كل رؤساء الدول حولنا. هذا هو السبب الذي جعل المصريين يطلبون، أمس، اللقاء برئيس الأركان الفريق هرتسي هليفي ورئيس “الشاباك” روني بار، على عجل. التقى الرجلان أمس ساعات طويلة مع نظيريهما في مصر. بسبب الوضع الجديد، ثمّة افتراض بأن هاليفي وبار سيمضون أميالاً كثيرة في نادي “المسافر المثابر”، لأنهما سيكونان موضع غزل في كل عواصم المنطقة، مع التشديد على دول الخليج”.
بدورها، نوّهت قناة “القاهرة الإخبارية” التي تعد ذراع مصر الإعلامية الخارجية إلي أن “وفداً إسرائيلياً رفيع المستوى يزور القاهرة حاليا، في إطار سعي مصر إلى الوصول إلى تهدئة في غزّة، ودعم دخول المساعدات للقطاع، ومتابعة تدهور الأوضاع في المنطقة”. مثير للحزن هذا اليقين الصهيوني العام بأن متانة العلاقة مع إسرائيل هي الخيار الاستراتيجي لغالبية الدول العربية، ليست فقط العلاقات السياسية، وإنما الأمنية والاقتصادية أيضاً، إذ يتزامن “لقاء القلق المصري من صاعقة سورية” مع لجوء القاهرة إلى تل أبيب بحثاً عن طوق نجاة من أزمة طاقة تهددها بالظلام.
ووفقاً لتقرير اقتصادي منشور في “العربي الجديد” قبل يومين، استغاثت الحكومة المصرية بإسرائيل لإنقاذها من أزمة غاز تهدّد بعودة العتمة وانقطاعات الكهرباء والغاز للمستهلكين، على غرار ما جرى في الصيف الماضي، حيث كشفت مصادر في وزارة البترول عن لجوء المسؤولين المصريين إلى إسرائيل لزيادة ضخّ الغاز إلى شبكة الغاز المحلية، وشراء محطّة لإعادة إسالة ثالثة، لضمان تشغيل المحطات على مدار الساعة، واستيعاب الكميات الهائلة من الغاز التي ستستوردها مصر، على مدار ست سنوات مقبلة.
وبحسب التقرير، ارتفعت واردات مصر من الغاز الإسرائيلي إلى معدّلات قياسية، خلال شهري أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني الماضيين، لمواجهة التراجع الكبير في الإنتاج المحلي، وارتباك حركة الواردات الدولية من الغاز المسال، من غرب أوروبا، حيث واردات مصر من الغاز الطبيعي من إسرائيل 826 مليون قدم مكعب يومياً، طوال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بزيادة 326 مليون قدم عن المعدلات التي تستوردها البلاد يومياً، من شبكة غاز الاحتلال الممتدة بالبحر المتوسط.
والحال كذلك، هل يرغب أحد فعلاً في إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، الذي يحاصره الأشقّاء، ويبيده الأعداء؟ هل تمثل مأساة قضية عربية، أم أنها ورقة يستخدمها عربٌ في تحسين علاقاتهم بكل من واشنطن وتل أبيب؟