مكسّْل معكّْس

د. معاذ الخلطي

يجد الإنسان وقتا ليُحاسِب نفسه تحت الأرض؛ ما دام فوق الأرض فلا يجد الوقت حين ياتيه الإعفاء من جميع المسؤوليات بما فيها مسؤولية البيت. من ناحية؛ فمحاسبة الماضي وأنت “مْكسّل” يمكن أن تمنحك فرصة هادئة وممتدة الوقت لتقليب التفكير.

للأسف! فهذه المحاسبة لا يتبعها تصحيحٌ ولا تعديلُ لنهاية وقت المباراة؛ وللأسف أيضا ليس هنالك أشواط إضافية أو ضربة جزاء تقلب الميزان، إلا إذا نجحت في تربية أولادك ليكونوا “ولدا صالحا يدعو له”. ومن مساوئ تلك المحاسبة تحت الأرض أنها حسرة؛ حسرة تلو حسرة؛ “يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم” وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر وهم في غفلة. يراجع شريط حياته عدة مرات، فكل ساعة يختبرها في عشر ساعات وأكثر، يعيد الفيديو أكثر من مرة، فإن عاش ستين حاسب نفسه في ستمئة أو أكثر.. في الحقيقة لا فائدة من هذه المناقشة ما دمنا سنحاسب أنفسنا تحت الأرض وبعد فوات الأوان؛ ولكن ثمّتَ فائدةٌ اقترحها بعض التربويين؛ وهي أن تختار يوما تكون فيه بعيدا عن العلاقات، وتقعد بمكان خالي لا أحد فيه، وتنام فكريا، وتتخيل نفسك أن تمّ الفراغ منك وانتهت حياتك وتعيش مراسم الدفن كاملة، وتشاهد أهلك يستقبلون التعازي ويبكون.. كل شيء تشهده وترى نفسك في ظلمة القبر؛ لماذا كل هذا؟! لأن هذه النفس تفهم المعنى والمعاني بالشعور والإحساس، فإذا مررت بها من هذه المشاهد أفرزت لك التصديق بتلك المشاهد. ما الذي سيحصل؟! ستجد في نفسك غما شديدا من الحسرة على توقف العمل وانقطاع الفرصة في الإنجاز، ثم تتمنى في حسرة شديدة أن لو رجعت إلى الدنيا؛ وهذه الحسرة هي الدافع نحو العمل والإنابة؛ ثم تخيل نفسك أن اُعطيتَ فرصة للعود والبدء من جديد، وحينها تعود بنفس متجددة حريصة على العمل الصالح وإعمار خزانك من الحسنات  وتصفية السوءات.

 أخبرني أحد الأصدقاء أن مما ساعده على هذه الذكرى أن وفّر زعفرانا وسمنا ووضعه في رف من رفوف البيت وأغلق عليه مدّة!  فلما سُئل عن ذلك قال: اشتريت هذا لأجل العَشاء الذي سياكله الناس عليّ يوم العزاء، فقد كفيتهم مَؤونة هذَيْن؛ ههه.

تأكد لي أن وجودنا في هذا الكوكب غير طبيعي؛ كيف سأبني أحلامي ومستقبلي على أرض دخلتُها بعد عقوبة عن وَجْبة؟! اهبطوا.. ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين. فرق كبير بين شعوري بأني كائن أرضي وبين أني كائن فضائي؟! نحن فعلا كائنات فضائية قبل أن نكون أرضية!!! لقد هبطنا، والفضاء فوق، والأرض تحت؛ لذلك يضيق التنفس أحيانا (التنفس النفسي وليس الأوكسيجيني) ننتحر أحيانا كالسمكة إذ تخرج من البحر، وضاقت عليهم بما رحبت؛ شخصيا لم أجد الراحة أبدا في أي شيء!! باستثناء لحظة سجود أو تلاوة قرءانية سابحة أو قراءة حديث نبوي مؤكد صحته وعليه ظلال النبوة، أو لحظة حب عابر تصلني بالأرض الأولى الحقيقية؛ لأن الحب لحظة عود إلى ذكريات الحياة الأولى تحملها الخلايا في الذاكرة التي لا تعي، لذلك لا يقوى المرء على تحمله أحيانا؛ وما تبقى جحيمٌ في شقاء في عناء في عبودية لغير الله؛ تركتَ الرزق في السماء بدون كد ولا تفكير! وفي السماء رزقكم ولم يقل وفي الأرض رزقكم!! هذه الدنيا إما أن تكون أنت مريضا أو ابنك أو أحد والديك؛ والفقراء تراهم في كل مكان والجوعى والمرضى والقتلى! هل هذا كوكب للحياة؟!  لا أظن.. أول نشرة إعلامية صحفية وأول تقرير إعلامي عن الأرض وسكانها هو “من يفسد فيها ويسفك الدماء”.  الشهوات والشهِيّات في نفس الإنسان لا تكفيها مَوفُورات الكوكب الأرضي؛ فالنفس تحتاج إلى مساحة عَرْضُها السماوات. ولو أن لأي من بني ءادم بحرين من أي معدن نفيس مُربح لابتغى خامسا وسابعا، ولا يملأ جوفه إلا نعيم جنات عدن.

والناس أغلبهم مُشْركون في الأرزاق (من الشَّرَك) أي المصيدة، واقعون في شَرَك الجانب الغلط في باب الرزق. الخبز في الجنة لا يتطلب شهادة جامعية ولا وظيفة؛ ولا دخلا محترَما.. متوفر قبل خبز الأرض وبِوَفرة؛ أعنى بالخبز ما نعني به في قاموس البلاغة المغربية العامية، وهو كل غِذاء من باب القوت تقوم به الحياة وكل متطلَّب لذيذ من متطلبات الحياة ضروريا كان أو حاجيّا أو كماليا. إذَنْ تواجُدُنا في هذا الكوكب بهذه الطريقة ليس على سَنَنِ الرحمانية، وإنما بسَنن الربوبية. إن المناكح والمراكب والمآكل مِنَنٌ من المنّان صدرت بوجود الإنسان؛ الله اَجلّ وأعظمُ من أن يـُحرّج عبيده ليكدحوا لأجل أن يجدوا أقواتهم. لم يكن لآدم شريعة كثيرة الأمر كثيرة النهي، باستثناء نهي واحد “ولا تقربا هذه الشجرة”، وقد تبين لي أن كل الأمراض جاءت من الأكل حتى النفسية منها؛ الشريعة تقول له ولا تقربا هذه الشجرة؛ ويعاكس الشيطان الشريعة الإلهية فيقول كلوا منها. يظهر أن هذا الشرع متين عميق قويّ مآلاته بعيدة المدى عميقة، القضية كلها في الأكل؛ في الجنة كلوا منها حيث شئتم، ولا تقربا هذه الشجرة؛ والإنسان يأبى إلا الاعتماد على مقترح إبليس “ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملَكين أو تكونا من الخالدين”. كيف يصدّق الانسان قسَم الشيطان وينسى قسَم الرب (فوَرب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون).

“مْعكّْسْ! شكون هوا؟! الإنسان من نهار الأول وهوا معكس”؛ ورغم التحذير الإلهي أبى إلا أن يستجيب لمقترح إبليس بتناول الشجرة المحظورة. مع احترامي للبعض الذين يظنون أنها قِصة وهي ليست قصة؛ وإنما هي عادة يومية متجددة، كل يوم يخاطَب ابن ءادم ولا تقربا هذه الشجرة، وهو يسقط ويزلّ ويستجيب لنصيحة ابليس اليومية إذ دلاهما بغرور؛ تأمل في لفظ الشجرة وأصولها اللغوية واشتقاقاتها ودلالاتها الشكلية والفنية وخِلقتِها وعلاقتها بالماء وفروعها في الارض لتفهم بقية المعنى. وأما العاجزون عن الفهم فيعانون من الحِرمان؛ حرمان فهم القرءان.  نهار تتعكس مع التعليمات الشرعية استحضر الأكل من شجرة النفس، والاستجابة لنصيحة إبليس. لا حرمان أشدّ من أن لا تسعى لتفهم كلمة في القرءان، وهي حياةٌ كلها ورشادٌ ونبضٌ ووعيٌ وجِدّة..


د. معاذ الخلطي | أستاذ باحث في العلوم الشرعية واللغوية
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل