
سيكون موقفنا سخيفا للغاية عندما ستقترب المواعيد الانتخابية المقبلة، ونقوم بدورنا في تشجيع الشباب على المشاركة السياسية وممارسة حقوقه وواجباته المواطنة. أية مشاركة هذه سنطالب بها في الوقت الذي نواجه أبسط أشكال التعبير والانخراط الشبابي عبر الأنشطة الطلابية، بالقمع والحصار والاعتقال؟
ففي لحظة تاريخية يتحدّد فيها معنى “الكرامة الأكاديمية”، تتجلى أمامنا مفارقة مذهلة حدّ الصدمة: جامعة هارفارد، في عقر دار الإمبراطورية الداعمة الأولى للاحتلال الإسرائيلي، تتحدى رئيس أقوى دولة في العالم وتتشبث باستقلالها، بينما جامعات مغربية في قلب بلد يُفترض أنه شقيق لغزة في الدم والهوية والمصير، تُغلق كلياتها وتستدعي الشرطة وتُعلن “عطلة قسرية” فقط لأن الطلبة أرادوا التعبير عن تضامنهم مع المحاصرين تحت القصف.
في الولايات المتحدة، لم تمنع الصواريخ الإعلامية والسياسية التي أطلقها دونالد ترامب من أن ترفع جامعة هارفارد رأسها وتقول “لا”. لقد رفضت هذه الجامعة أن تنحني تحت سيل الاتهامات بـ”معاداة السامية”، ورفضت أن تُغيّر أساتذتها أو مناهجها أو سياساتها، ورفضت حتى أن تبرر نفسها كما تفعل عادة مؤسساتنا حين يُلوَّح لها بـ”المصلحة العليا”.
والنتيجة؟ لقد حُرمَت من 2.2 مليار دولار من التمويل الفيدرالي، وهوجمت من طرف البيت الأبيض، واتُّهمت بزرع الحقد والغباء.. ومع ذلك لم ترضخ.
كتب رئيس الجامعة، آلان غاربر، بلغة لا لبس فيها قائلا: “لن نغيّر برامجنا، ولن نطرد أساتذتنا، ولن نغادر مربّعنا الدستوري”.
لم يتحدث الرجل عن “الظرفية الحساسة” ولا عن “تفادي التصعيد”، بل أعلنها مواجهة ودفاعا عن حُرمة المؤسسة الأكاديمية.
في المقابل، في جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، لم يُطلب من إدارة الجامعة أن تغيّر مناهجها أو تُجري إصلاحات هيكلية. ولم تتلق تهديدا بسحب مليارات من الدعم المالي –أصلا لا يوجد دعم يُذكر- ولم تُحرَّك دعاوى قضائية ولا صدرت أوامر عليا رسمية.
كل ما في الأمر أن الطلبة أرادوا تنظيم نشاط تضامني مع غزة، فكان رد الفعل إغلاق ثلاث كليات، واستدعاء الأمن، واعتقال أحد الطلبة، ثم تبرير كل ذلك بـ”غياب التوقيع من الجهة المنظمة” و”تفادي التداعيات المحتملة”.
نفسُ الخطاب الذي يخرج كل مرة من رفوف الإدارة، مكتوب بلغة بيروقراطية خشبية، ومليء بالعبارات المعقمة من قبيل “المصلحة العليا للطلبة”، وكأن الطالب لا مصلحة له في أن يُعبّر عن رأيه في قضية كبرى تهمّه بوصفه إنسانا بكل بساطة.
لكن الفضيحة لا تكمن فقط في القرار، بل في سياقه: هذه ليست حادثة معزولة. منذ 2022، ونحن نشهد نفس “السيناريو الأمني” في كل مناسبة طلابية ذات صلة بفلسطين: جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، وجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، والآن جامعة مولاي إسماعيل بمكناس.
كلها جامعات اختارت، في لحظة كان يُنتظر منها أن تُربّي على التفكير والنقاش، أن تُربّي على الخوف والصمت والانصياع.
وفي الوقت الذي كانت فيه هارفارد تتلقى تهديدا صريحا من إدارة ترامب بمراجعة نظامها الضريبي وسحب وضعها كمؤسسة غير ربحية، وهو ما يُهدد قدرتها على جذب التبرعات، كانت الجامعة المغربية تُمارس الرقابة الذاتية قبل حتى أن تتلقى أي تهديد حقيقي.
لقد صمتت إدارات الجامعات عندنا كما لو أن “غزة” كلمة محظورة، أو أن رفع العلم الفلسطيني يشكّل خطرا أمنيا.
جامعة هارفارد، رغم كل الضغوط، واجهت بحصانة مبدئية وسند مالي ضخم (أكثر من 53 مليار دولار في صندوقها الاستثماري، أي أكثر من الناتج الداخلي الخام لدول عربية بأكملها)، ورغم ذلك لم تخلُ معركتها من خسائر: تجميد عقود بحثية، وإيقاف مشاريع طبية، واحتمال هجرة كفاءات…
ومع ذلك، قبلت أن تدفع الثمن.
في المقابل، جامعات المغرب، وهي لا تملك حتى الحد الأدنى من التمويل للاستقلال عن تدخلات الإدارة، اختارت أن تُعلن الهزيمة من أول صفارة إنذار. اختارت أن تُقايض الحُرية بالهدوء، والصوت بالنظام، والموقف بالصمت.
حتى نقابة التعليم العالي، التي من المفترض أن تكون حامية لحرمة الجامعة، لم تجد من تعبير أدق من وصف قرار إغلاق الكليات بـ”الانتهاك الصارخ لصلاحيات الهياكل الجامعية”، وكأن المشكل مجرد خرق إداري، وليس اعتداء على حق أساسي في حرية التعبير والتضامن والوجود السياسي داخل الحرم الجامعي.
المقارنة لا تقتصر على المؤسسات الجامعية، بل تمتد إلى المجتمع المحيط. في أمريكا، خرج باراك أوباما، الرئيس الأسبق وأحد خريجي هارفارد، ليُعلن دعمه للجامعة، معتبرا موقفها نموذجا يجب أن يُحتذى. كما ساند بيرني ساندرز، أحد أبرز رموز اليسار الأميركي، مقاومة الجامعة للسلطة.
أما في المغرب، فلا صوت لأحد. لا رؤساء جامعات، ولا وزراء تعليم، ولا نخبة فكرية. الكل في وضعية “الوضع الصامت”، يتفرجون على انهيار المعنى دون أن ينبسوا بكلمة.
الأخطر من ذ لك، أن رئاسة جامعة مولاي إسماعيل لم تكتف بمنع النشاط، بل أغلقت الجامعة برمتها، وعطّلت الدراسة، وكأن الجريمة في حق غزة قد تسربت إلى جدران الكليات، وصار من اللازم تعقيمها بإجراءات استباقية أمنية.
هل بلغ بنا الخوف من الكلمة أن نحظر حتى التفكير فيها؟ وهل بات من الطبيعي أن يُتَّهم الطالب المغربي بـ”التحريض” إذا عبّر عن رفضه للإبادة الجماعية؟
وإذا كانت الجامعة، التي هي آخر فضاء للنقاش الحر، تُغلق أبوابها عند أول نسمة احتجاج، فماذا ننتظر من باقي الفضاءات؟
وإذا كانت جامعة في بلد بحجم هارفارد تواجه رأس السلطة وتخسر المليارات دفاعا عن استقلالها، فأي مبرر لجامعة مغربية كي تهرب من مجرد نشاط طلابي؟
إنها مفارقة ليست فقط بين غنى هارفارد وفقر جامعاتنا، بل بين وعي المؤسسة برسالتها، وبين ضياع تلك الرسالة في زحمة التعليمات والتعليمات المضادة.
ولذلك، حين نرى طلبة هارفارد ينظمون وقفات أسبوعية، وينشرون بيانات تندد بالمجازر، ونرى إدارتهم تدافع عنهم باسم الحرية الأكاديمية، ثم ننظر إلى طلبة مكناس وهم يُطاردون خارج أسوار كليتهم، لمجرد أنهم رفعوا لافتة “كلنا غزة”، نفهم أن مشكلتنا ليست فقط مع الاحتلال المباشر لغزة، بل مع الاستعمار الذي يسكننا.
وأن الجامعة، التي كان يُفترض أن تكون منارة للمقاومة الثقافية والمعرفية، صارت عندنا مجرد ملحقة إدارية لوزارة الداخلية.
ومن المفارقات الأكثر مرارة، أن الإدارات عندنا تمنع النشاط التضامني مع غزة، وتبرره بـ”تفادي التداعيات”، بينما نفس الإدارات تملأ جدرانها بملصقات تتغنى بالقضية الفلسطينية و”التضامن الثابت”. وكأن القضية صارت مجرد شعار يُرفع، لا موقفا يُمارس.
إن الفرق بين جامعة هارفارد وجامعاتنا ليس في اللغة أو التمويل أو المكان، بل في الفهم العميق لوظيفة الجامعة.
هارفارد تفهم أن الجامعة توجد لكي تقول الحقيقة، حتى في وجه أقوى رجل في البلاد. بينما جامعاتنا تعتقد أن وظيفتها تكميم الحقيقة، كي ترضي أصغر مسؤول في الولاية.
لذلك، حين سيُسأل المؤرخون يوما عن لحظة أفلتت فيها الجامعة المغربية من رسالتها التاريخية، سيجدون في حادثة مكناس، وصمت الجامعات الأخرى، دليلا دامغا على الخذلان.
والسؤال الآن ليس ماذا فعلت هارفارد؟ بل ماذا تبقّى من جامعاتنا؟