قبل فرار بشّار الأسد مدحوراً أمام اجتياح المعارضة المسلحة المدن السورية، واحدةً تلو الأخرى، بسهولة لافتة، وقبل الوصول إلى دمشق، كتبتُ “لا أتمنى لمصر تغييراً بهذه الطريقة، ولا أظن أن مواطناً سليم العقل والضمير يتمناها”. قلتها قبل سنوات: “النظام الدولي لا يُهدي وطناً، بل يُقَسِّمه أو يلقي به في التيه. التغيير يُصنَع بالداخل ولا يأتي من الخارج على دبابة أو بحقيبة دبلوماسية”.
الآن، وبعد أن صارت المعارضة هي الإدارة السورية الجديدة (النظام الجديد) وبعد أن أصبحت انتصارات إدارة العمليات العسكرية توصف بانتصار الثورة السورية، التي يتنافس كارهو الثورات في كل مكان وزمان على إظهار الحُبّ لها، وادعاء نسب بها، مازلت عند رأيي، لا أتمنّى تغييراً في مصر بهذه الطريقة، مع الاحترام الكامل للشعب السوري ولاختياراته ولأفراحه المستحقّة بزوال أكثر من نصف قرن من الحكم الظالم، ليس لأن الحالة المصرية الراهنة أسعد حظاً من حالة سورية مع الطاغية الساقط بشّار الأسد، وليس لأن الذين يحكمون في مصر شعراء رومانسيون، وليس لأن الشعب المصري من طينة أخرى مختلفة عن تكوين الشعب السوري، وإنما انتماءً ليقين راسخ بأن الثورات لا تنتصر عسكرياً، وبدعم خارجي، فالسلاح قد ينجح في إزاحة نظام مستبدّ غير أنه لا ينشئ سلاماً مجتمعياً له صفة الديمومة.
في هذه الأجواء المشحونة بأنواع الانفعالات كلّها، المنفلتة منها والمعتدلة، بين انتشاء أقرب إلى الغرور والاستعلاء الثوري، الذي يعلن عداءه لكلّ من لا يطبّل ويزمّر له، تطلّ من داخل الأراضي السورية دعوة لاستنساخ نموذج التغيير السوري في مصر، لمناسبة ذكرى ثورتها الذبيحة، وهي الدعوة التي تلعب على وتر الفزع غير المبرر لدى أركان الحكم في مصر من نجاح المعارضة المسلحة السورية، مدعومة إقليمياً في إسقاط نظام بشّار الأسد، إذ تعلن القاهرة حالة الاستنفار الأمني والإعلامي على نحو مبالغ فيه، وكأن جحافل “الجهاديين”، الذين يرفعون لافتات 25 يناير (2011) على الأبواب.
ثمّة حالة استثمار متبادل بين مطلقي هذه الدعوات وبين المفزوعين منها، كلاهما يتغذّى على إنتاج الآخر، السلطة تلتقط مقاطع الفيديو القادمة من الشام لاستغلالها في إشاعة الرعب من سقوط الدولة وضياع الوطن، ومن ثمّ تبرّر مضاعفة كميات القمع والتضييق على الحرّيات السياسية والإعلامية، والطرف الآخر الجالس في سورية يُصدّر البيانات عبر جهاز هاتف محمول ينتشي بهذه الحالة من النجاح في فرض نفسه موضوعاً رئيساً على الخطاب الإعلامي والأمني الرسمي، ليصبح، فجأةً، حديث الجماهير التي ألهبت ظهورها الأزمات المعيشية واشتداد القبضة الأمنية.
يبدو السيناريو تكراراً واجتراراً لما كان يجري في مثل هذه التوقيت خلال سنوات مضت، غير أنه هذه المرّة يكتسب زخماً استثنائياً، لأنه ينطلق من أرضيةٍ مبلّلةٍ بنشوة “انتصار ثوري” مستهدفاً جمهوراً استبد به الجوع للتغيير، فلا يتوقّف كثيراً عند هشاشة هذا العبث الذي يسمّي نفسه ثورياً ولا يفيد أحداً إلا السلطة التي تلقفته هديةً ثمينة تأتيها من أرض الشام هذه المرّة، ولم تضيّع وقتاً في توظيفها على الوجه الأمثل لمواصلة لعبتها الأثيرة في الربط بين الثورات الشعبية ودمار الأوطان.
مرّة أخرى، كان الظنّ أن الناس اكتسبوا مناعةً ضدّ هلاوس السيناريوهات والتسريبات والتخمينات التي تندلع قبل 25 يناير كلّ عام، تحمل للناس الأخبار السعيدة عن سقوط النظام وإسدال الستار على مرحلة قاتمة، غير أن هذه السوق (وللأسف!) لا تزال تشهد رواجاً في كلّ موسم.