كاينابريس – وائل قنديل(*)
يُطلق الاحتلال على كلِّ من يقاوم أو يدعم المقاومة لقب “المخرّب”، وبالتالي يعطي لنفسه الحقّ في قتله، إن كان في مستشفى، أو في بيتٍ مهدّم، أو سائراً في الطريق إلى خيمة، أو واقفًا ينظر إلى السماء، علّها تُمطر بعض المعلبات الغذائية أو كيسًا من الطحين.
كلّ من يبقى على أرض غزّة هو مخرّب بعين الاحتلال، والأمر ذاته صارت تفعله أجهزة القمع الأمني العربية، فتصف المتظاهرين الذين يهتفون مندّدين بالتطبيع مع العدو ومدّ الجسور البريّة إليه بأنّهم مخرّبون يستهدفون تقويض دعائمَ الدولة وتعريضِ أمنِ الوطن للخطر، ومن ثم فهم أهداف مشروعة للاعتقال والسجن والسحل في أماكن التظاهر. ولم لا؟ وهم الخطر الداهم على الجالسين فوق عروش الأمة الذين تهزّهم كلّ صيحةِ هتافٍ بأكثر ما تثير فزع الاحتلال.
تُحاصر أجهزة القمع اعتصام الجماهير الأردنية في محيطِ سفارة العدو بالجنود المدجّجين بالسلاح، وبالعربات المصفّحة، وبجيوشٍ إلكترونية تتهم المتظاهرين بمحاولة تخريب الوطن، وتقول إنّهم انحرفوا بالحراك لتنفيذِ أجنداتٍ خارجية، تماماً كما في وقفة الناشطين والصحافيين المصريين أمام نقابة الصحافيين الذين هتفوا من أجل فلسطين قبل يومين، إذ سريعًا جرى استدعاء فرقة من “الصحافيين الشرفاء” للتقدّم بمذكرة تُطالب بوضعِ ضوابطٍ لتنظيم أيّ وقفاتٍ على سلّم النقابة، بحيث تكون بعلمِ المجلس وملتزمة بأهدافها المعلنة، والحيلولة دون انحرافها إلى أهدافٍ أخرى تضر بصورةِ ومصلحةِ الجمعية.
في مسألة رمي الحراك الأردني بالانحراف تحضر إيران، كما في الرواية الصهيونية عن المقاومة الوطنية الفلسطينية. وفي مصر يُتهم الهتاف بالانحراف لأنّه هتف ضدَّ تجارِ الدم الفلسطيني الذين يبتزّون جرحى العدوان المارّين من معبرِ رفح لدخول مصر.
كما يأتي الإعلام العربي عنصراً إضافيّاً في حصارِ الحراك بتغييب التغطية المباشرة له، فيمرذ خبرًا سريعاً من دون توّقف عنده بالتحليل والإضاءة، على عكس ما هو حاصل مع تظاهرات معارضي نتنياهو المطالبة باستعادة كلِّ الأسرى، ثم مواصلةِ إبادةِ الفلسطينيين بعدها، ومحاولة تصوير الحراك الصهيوني على أنّه مصلحة عربية تستحقّ الاحتضان الإعلامي، ومتابعته لحظة بلحظة.
لا يريد هؤلاء أن يصدّقوا أنّ هناك من جماهير الشعب من لا يُطيق أنّ يلحق عارَ الصمتِ الملفوف بعباءة العجز بأمّةٍ كاملةٍ يقترب تعدادها من نصف مليار مواطن عربي، فيكون الحلّ الأسهل اتهامهم بالعمالة لقوى خارجية تعمل على زعزعة استقرار الوطن العربي، والحقيقة أنّه لا يتهم أي حراك عربي مناصر لفلسطين بتنفيذِ أجندة إيران سوى نفوسٍ وضيعةٍ تغلغل فيها التصهين حتى النخاع والعظم، كما أنّ التحريض على حراكٍ نبيلٍ كهذا ورميه بالعمالة، ليس سوى نضالٍ محمومٍ تحت راياتِ بنيامين نتنياهو الذي قالها صريحة قبل عشر سنوات “الشارع العربي المعبّأ بالعداء لإسرائيل هو العقبة الوحيدة أمامنا وليست الحكومات العربية”. قالها، وهو يعلن مولد ما يُعرف بمعسكر “اعتدال” لمواجهة إيران وحركات المقاومة العربية، التي صارت موصوفةً رسميًّا في العواصم “المعتدلة” بالتطرّف والإرهاب.
حراك الشعب العربي الهادر في الأردن والمغرب وتونس والعراق واليمن، وفي مصر، هو العادي وليس الاستثناء لو كنّا في زمنٍ عربيّ طبيعي، وعدم خروج هذا الحراك هو الشاذّ وغير العادي، إذ لا يُعقل أن ينتفض من أجل غزّة وفلسطين آلاف الإثيوبيين في أديس أبابا، التي نتهمها بالعبث بالنيلِ لمصلحةِ إسرائيل، بينما تبقى معظم العواصم العربية خرساء لا تقوى على الهتافِ لفلسطين، وإن هتفتْ تُقمع ويُسجن رجالها، بحجة أنّ التظاهر يعرّض الأوطان للخطر، ويزعزع الاستقرار.
قرار الأمن المصري بعدم السماح بوقفةٍ أمام نقابة الصحافيين بالقاهرة في عاصمة ما تسمّى الجمهورية الجديدة يوم حفل إعلان مدّ رئاسة عبد الفتاح السيسي، على مسافةِ أكثر من 60 كيلومترًا، وترحيلها إلى يومٍ لاحقٍ، يلخص الموضوع كلّه: أي حراك وطني إنساني أخلاقي من أجل غزّة يزعج النظام ويثير قلقه، بعبارة أخرى حيوية الشارع ويقظته وغضبه وكراهيته للاحتلال الصهيوني عقبة أمام استقرار السلطة، وهنا تتطابق رؤية نتنياهو إلى الشارع العربي مع رؤيةِ أنظمةٍ عربيةٍ لا تطيق أن تحيا من دون تطبيع مع الكيان الصهيوني. وبالتالي، نحن بصدد تحالف استراتيجي بين الاحتلال والاستبداد ضدّ الشارع العربي الذي يعادي الكيان الصهيوني ويحتفظ بيقينٍ ناصعٍ بأنّ فلسطين عربية، وأنّ الاحتلال ليس سوى الجسم الغريب الذي يُراد تثبيته عنوةً في المكان والزمان العربيين.
لا يطيق هذا التحالف أن تكون أعلام فلسطين، مرفوعةً في ميادين تهتف ضد الاحتلال والاستبداد معًا، وما ذاكرة عام 2011 ببعيدة، إذ كانت فلسطين حاضرةً في كلّ ميادين الثورات، من تونس الخضراء إلى القاهرة، مروراً بصنعاء ودمشق، في كرنفالِ تحريرٍ مفتوحٍ وممتدٍ بطولِ وعرضِ خريطةِ الأحلام العربية.
الآن، ومثلما كان متحقّقّاً في تلك الأثناء، عادت القضية الأم تتبوّأ مكانها ومكانتها، في قائمة اهتمامات الجيل الجديد، واستعادت الذاكرة قصة الأرض، وأدركت الشعوب بالفطرة البسيطة أين يقف العدو الأصلي بعد التخلّص من وكلائه، ولعلّ ذكريات تلك الليلة التي تسلّق فيها شابٌّ مصريُّ جدران البناية التي يقبع أعلاها العلم الصهيوني، على بعد 15 طابقاً في صيف 2011، لا تزال ماثلة في أذهان من يريد أن يتذكّر. ففي تلك الليلة، امتطى الفلاح القادم من قرية في محافظة الشرقية صهوة الحلم والثأر، وصعد إلى سفارة العدو على نيل الجيزة وأنزل العلم الصهيوني، وغادر سفير الاحتلال القاهرة مرغمًا بقوّة الضغط الجماهيري.
وكما قلتُ سابقاً، كان هذا بالتحديد الفارق الذي صنعته ثورات الربيع العربي، والثمرة الأولى لمحاولةِ تحريرِ المواطن العربي من احتلالِ دولةِ الاستبدادِ والقهر، وعلى ضوء ذلك، يمكن فهم سرّ العلاقة الدافئة بين الاحتلال وكلّ الأنظمة الاستبدادية التي قامت على سحق ثورات الشعوب، كما يمكن إدراك اتفاق الطرفين في النظر إلى الجماهير الحيّة، بوصفها الشرّ المطلق والتهديد الأكبر لهذا التحالف المشين.
(*) صحافي وكاتب مصري