الوساطة العربية في حرب غزة باتت تحتاج إلى إعادة نظر في تسميتها فضلًا عن مهمتها. ذلك أننا نفهم أن الوساطة يقوم بها طرف محايد يتولى تسهيل الاتصال بين طرفَين متنازعين، حيث يبذل ذلك العنصر المحايد مساعيه الحميدة لتقريب وجهات النظر بينهما.
إلا أن الأمر اختلف في حالتنا، لأننا لا نكاد نجد طرفًا محايدًا بين الوسطاء الثلاثة: الأميركيين والمصريين والقطريين. فالعرب ينتسبون إلى الجانب الفلسطيني في البدء والمنتهى، والأميركيون يقفون مع الإسرائيليين في خندق واحد، بل ينامون معًا في سرير واحد إذا جاز التعبير. والعربي محسوب على “محور الاعتدال” في المنطقة، أما الأميركي فهو ضالع مع الإسرائيليين ضمن جبهة الاعتداء.
ثم إن المشاورات الحقيقية لا تجرى مع العرب، لكنها مستمرة بين الأميركيين والإسرائيليين أولًا على النحو الذي يعرفه المتابعون. وإذا استعدنا انطباعاتنا عن موازين القوى، فسوف ندرك أن الأقوى عسكريًا وسياسيًا لا يتشاور مع الطرف الفلسطيني، وإنما يحاول الإملاء عليه، مستثمرًا عناصر قوته.
إزاء ذلك فقد لا نبالغ إذا قلنا إن تركيبة لجنة الوساطة تفتقد إلى التوازن، حيث عمدت إلى تهميش الدور العربي، وتضييق مجال حركته بحيث يراد له ممارسة الضغط على حركة حماس وابتزازها قدر الإمكان لصالح إسرائيل.
ولأنني لا أشك في سوء نية الطرف الأميركي- الإسرائيلي، فلست أتردد في القول بأنه أُريد للوسطاء العرب أن يقوموا بدور “شهود الزور” الذين يمررون للإسرائيليين ما يريدون بعد أن تغلفه بصياغات فضفاضة ومخادعة.
فحين يتحدث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن – مثلًا – عن معارضة واشنطن الشديدة والحازمة لاحتلال طويل الأمد، فإن تلك الصياغة تخفي موافقة ضمنية على الاحتلال قصير الأمد، وحين يعلن عن انسحاب إسرائيل من المناطق المكتظة بالسكان، فذلك معناه استمرار الاحتلال في المناطق غير المأهولة (التي هُدمت في واقع الأمر).
وإذا علقنا بعض القضايا بدعوى ترحيلها للتفاوض لاحقًا، فذلك يعني تأييد تعليقها بلا حسم. وهو ما يستدعي من ضمن ما يستدعيه في تراث التفاوض الفلسطيني- الإسرائيلي الطويل، تعليقَ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق شامير الذي أقلقه توقيع اتفاق أوسلو في 1993 رغم الجوائز الشكلية التي منحها للفلسطينيين، وأعلن استنكاره ما فعله سلفه إسحاق رابين متسائلًا: لماذا التوقيع وكان بوسعه أن يحصل على ما يريد من خلال التفاوض لعشر سنوات أو أكثر دون أن يوقّع على شيء؟
إزاء الحصانة التي يتمتع بها الاحتلال الإسرائيلي، فإن محاولة توظيف الطرف العربي لدعم إسرائيل تسيء إلى سمعة الوسطاء
لا أريد أن أقلل من دور الوسطاء العرب، لأنني أثق في أنهم بذلوا ويبذلون أقصى ما يستطيعون من جهود في إطار سعيهم لوقف القتال مع التزامهم بالحل العادل والمشرف للقضية. لكنني أتحدث عما تكشف أثناء الممارسة، خصوصًا أننا نقلب صفحات سجل الأطراف المعنية، ونستدعي على خلفياتها التي تكشفت عن النوايا الحقيقية والأهداف البعيدة والخفية للطرف الأميركي- الإسرائيلي.
في هذا الصدد، لا يفوتنا توقيت تحريك فكرة “الوساطة السياسية”، وكيف أنها طرحت بعد مضي ثمانية أشهر من بدء الحرب في غزة، حين تبين فشل جيش الاحتلال في تحقيق أي هدف إستراتيجي له من خلال الضغط العسكري.
في الوقت ذاته، فثمة علاقة بين تنشيط الدور السياسي الأميركي العلني مع اقتراب حسم انتخابات الرئاسة الأميركية، وحرص واشنطن على كسب أصوات اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لصالح مرشحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس في مواجهة منافسها الجمهوري.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى تكثيف حملات الإبادة خلال الأشهر الأخيرة، وتوسيع نطاقها بحيث شملت الضفة الغربية. ولئن مثل ذلك ضغطًا على حماس لتليين موقفها إزاء تمسكها بشروطها الأساسية لإبرام الصفقة، إلا أنه صار بمثابة ضغط وإحراج للطرف العربي، وهو ما يسوغ طرح أسئلة ملحة حول ما تبقى من دور للوساطة في ظل تصعيد الحرب، وتوسيع نطاقها وجدواها.
وهي أسئلة تطرح، مادام أن الطرف الإسرائيلي لا يكتفي بمواصلة الإبادة وتوسيع نطاقها، وإنما أيضًا يواصل تحدي محكمتَي العدل والجنائية الدوليتين والأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويمارس التحدي والعربدة التي لا تتورع عن الاستخفاف بالرئيس الأميركي ذاته، وإضعاف موقفه الانتخابي بخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونغرس الذي استقبله بحسبانه تأييدًا للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، وتعويلًا على فوزه بالرئاسة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني القادم. وهو ما دعا كاتب صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان إلى القول بأن الرئيس بايدن وقف إلى جانب نتنياهو في كل مراحل الحرب، لكن الأخير لم يتورع عن طعنه في الظهر في ختام ولايته.
الخلاصة أن نتنياهو المتخبط في الحرب حتى الآن يتصرف كما لو أنه انتصر فيها، فيتعنّت في فرض شروطه، ويضيف إليها ما يشاء بما يؤدي إلى إطالة أمد القتال وإفشال مهمة الوساطة، وانتقد كثيرون ذلك حتى حذر الكاتب الصهيوني الشهير أري شافيت في “هآرتس” من عواقب سياسته في مقال عنوَنَه “إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة”.
وتعكس استطلاعات الرأي الأخيرة في إسرائيل انخفاض شعبيته والتي تظهر نتائجها أن 61% لا يؤيدون بقاء نتنياهو في رئاسة الحكومة، ولا يثقون في طريقة إدارته للحرب، خاصة بعد حادث مقتل 6 أسرى داخل أحد الأنفاق برفح آخر الشهر الماضي. وهو الحدث الذي أعاد المظاهرات المناهضة له مرة أخرى في تل أبيب، مدعومة بإضرابات غير مسبوقة.
لاحظ أن التصريحات الرسمية الأميركية دأبت خلال الأسابيع الأخيرة على الحديث عن تعطيل حركة حماس لعقد صفقة وقف القتال من خلال إضافتها شروطًا جديدة لموقفها (وهو ما نفته الحركة)، وتذرعت واشنطن بذلك لتأجيل إعلان الورقة الأميركية الأخيرة المزمع تقديمها إلى الطرفين، فلم يكن هناك تفسير لذلك سوى تحميل حماس وحدها المسؤولية عن التعطيل، دون أي إشارة إلى دور نتنياهو، وهو ما أصبحت تندد به الأغلبية الساحقة من المعلقين في داخل إسرائيل وخارجها، باستثناء مسؤولي الخارجية الأميركية. في حين ألمح إليها الرئيس بايدن بإشارة خجولة قال فيها إن صاحبهم “لم يقم بما يجب”.
قُرئت حملة إدانة حماس باعتبارها دعوة للوسطاء العرب لكي يجددوا ويكثفوا الضغط على الحركة لكي تقبل بالأفكار الأميركية التي قدمت لوقف القتال، رغم أنها اعتبرتها متماهية مع الموقف الإسرائيلي.
لم يعد أمام حركة حماس خيار سوى الاستمرار في المقاومة أو انتظار الإبادة، بعد الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون، مما يجعل أي تراجع عن الموقف الحالي غير ممكن
الشاهد أن الخيارات ضاقت كثيرًا إزاء ثبات مقاتلي المقاومة الفلسطينية وإصرارهم على الوقف الدائم للقتال والانسحاب الكامل وضمان حرية العودة إلى القطاع. وبالمقابل رد نتنياهو بإعلان رفض تلك الطلبات الأساسية والتمادي في العدوان، بحيث لم يترك مجالًا لتحرك الوسطاء إلا في اتجاه واحد هو القبول بمقترحات تفتح الأبواب لتلبية المطالب الإسرائيلية، وهو الدور الذي تقوم به الإدارة الأميركية الحاضنة لها.
الملاحظة الأساسية في هذا الصدد أن حركة حماس لا تستطيع التراجع خطوة واحدة عن موقفها وثوابتها المعلنة في المعركة بعد الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون جراء القتال. ولم يعد أمامهم إلا الاستمرار في المقاومة أو انتظار الإبادة.
وهو ذات النداء الذي أطلقه زعيم مقاومة الهنود الحمر “تكومسه” في خطبته الشهيرة التي وجهها إلى اجتماع ممثلي القبائل الهندية في بداية القرن التاسع عشر، وأراد بها أن يستنفرهم لمواجهة غزو من وصفهم بالغرباء ذوي الوجوه الشاحبة الذين جاؤوا من البلاد البعيدة لسرقة بلاده وإقامة ما سمي بالولايات المتحدة الأميركية، وهي ذات الأوصاف التي تنطبق على الغرباء الذين شرعوا في غزو فلسطين منذ 1948 وحتى الآن.
صحيح أن الدنيا تغيرت عما كانت عليه قبل قرنين من الزمان. فالفلسطينيون لا يزالون يقاتلون الغرباء ذوي الوجوه الشاحبة الذين جاؤوا لسرقة وطنهم رغم أنهم مثل الهنود الحمر خاضوا معركتهم وحدهم إلا أنهم تميزوا عنهم باستمرار نضالهم في وجود أمة محيطة ظلت شعوبها تحتضنهم طوال الوقت. وهي لم تقم بما عليها حقًا لكنها لم تمت.
ومما يؤسف له أن تلك الأمة لديها إمكانات كبيرة وفرت لها خيارات عديدة للمقاومة والمساندة أو التلويح بالضغط على الطرف الأميركي- الإسرائيلي أقله على المستوى الدبلوماسي والاقتصادي (فلا استدعاء للسفراء ولا مقاطعة من أي نوع، ولا تلويح بسلاح النفط)، وتلك ثغرة ليست هينة أضعفت من فاعلية دور الوسطاء العرب.
حتى الآن لم يتم إشهار فشل جهود الوساطة، لكن الثابت أنها لم تنجح. وإزاء الحصانة التي يتمتع بها الاحتلال الإسرائيلي فإن محاولة توظيف الطرف العربي لدعم إسرائيل لا تسيء إلى سمعة الوسطاء فحسب، لكنها تشكل إهانة لهم أيضًا.
الأمر الذي يستدعي سؤالًا صعبًا هو: هل لا يزال الوسطاء يعلقون الأمل على جدوى استمرارهم في مهمتهم، أم أن الأجدى لهم أن يلجؤُوا إلى أضعف الإيمان وينسحبوا مادام أنهم لا يمكّنون من أداء واجبهم؟ وفي هذه الحالة ما هو الثمن الذي يتعيّن دفعه جراء ذلك؟