
الأخطر من نزع سلاح المقاومة في غزّة تجريدها من ورقة أسرى الاحتلال بالتدريج، ووفق مخطّط مدروس يستجيب فيه الوسطاء لدور مطلوب منهم في الضغط على المقاومة في لعبة استيلاد الاتفاقات من رحم الاتفاق الأساس، الذي كانوا ضامني تنفيذ بنوده ومراحله بشكل كامل. الحاصل حرفياً أنه كلّما شعر الصهيوني بالاختناق من استحقاق اتفاقٍ وقّعه، اتجه إلى الوسطاء لكي يبدأوا رحلة البحث عن اتفاق جديد أو إقرار صيغة جديدة معدلّة جذرياً من الاتفاق الأصلي، تجعله هو والعدم سواء، والشعار المرفوع طوال الوقت هو البحث عن وسائل لمنع انفجار الموقف مرّة أخرى. وهكذا… سلسلة لا تنتهي من التعاطي مع الاحتلال بوصفه الطفل المدلّل المُمسك بعود الثقاب المشتعل مهددّاً بإحراق الجميع.
خمسون عاماً من التفاوض العبثي مع العدو لم يتعلّم منها العرب الدرس الأساس عن شخصية الصهيوني المفاوض، على بساطة ووضوح هذه الدرس الذي يقول: كلّما أردت التملّص من اتفاق، والتهرّب من استحقاق، اقتله بالذهاب إلى اتفاق جديد يجبّ ما قبله ويعيد اللعبة إلى نقطة الصفر.
تهرّباً من المرحلة الثانية من الاتفاق الموقّع بضمان الوسطاء الثلاثة، القاهرة والدوحة وواشنطن، قرّر بنيامين نتنياهو ألا تنتهي المرحلة الأولى، طالباً تمديدَها بشروط يحدّدها هو، تقضي بتنازل حركة حماس وفصائل المقاومة عن نصف عدد الأسرى الصهاينة الموجودين لديها في مقابل ألا يستأنف العدوان على الشعب الفلسطيني في غزّة طوال شهر رمضان، ثمّ قرّر منفرداً منع وصول كلّ أنواع المساعدات إلى غزّة، في سياق إحكام الحصار على المقاومة، حتى ترضخ وتسلّم الأسرى، وتلقي بأسلحتها وتغادر، فماذا فعل الوسطاء أمام هذه الصفاقة الصهيونية؟… المتاح من معلومات، كما تحدّثت مصادر مصرية، أن الوسيط المصري تقدّم بمقترح لتقريب وجهات النظر بين الاحتلال والمقاومة لضمان استمرار وقف إطلاق النار، يطرح مدّ المرحلة الأولى أسبوعين، بدلاً من ستّة، مع إطلاق سراح ثلاثة أسرى أحياء وثلاثة جثامين، وبحسب المصادر ذاتها، من المرتقب وصول الوفد الإسرائيلي إلى القاهرة خلال الساعات المقبلة لمناقشة الطرح الذي تقدّمه مصر.
المؤكّد لدي كلّ الأطراف أن ما يريده المحتلّ الصهيوني والراعي الأميركي من أيّ اتفاق أمران: استعادة أسرى العدو لدى المقاومة، ونزع سلاح المقاومة وإخراجها من غزّة، ثمّ استئناف العمليات العسكرية حتى تحقيق جميع الأهداف التي وضعها نتنياهو وأقرّ بها البيت الأبيض، ومن ثمّ تصبح الاستجابة الدائمة لما تطلبه إسرائيل من تعديلات وتغييرات على الاتفاق، أو الذهاب إلى اتفاق جديد، نوعاً من الموافقة على الأهداف المُراد تحقيقها في غزّة، الأمر الذي يبدو معه الموقف العربي الرسمي فيما خصّ نزع سلاح المقاومة، وإنهاء وجودها، منسجماً مع الموقف الأميركي الإسرائيلي، وثمّة شواهد عديدةٌ على أن المقاومة، حالةً وفكرةً، تحت حصار عربي، بالقدر ذاته الذي تواجه به حصار الاحتلال. ومن ذلك انطلاق حملات، ليست عشوائية وليست فردية، من دوائر إعلامية ودينية ترعاها مجموعة دول ما يسمّى محور الاعتدال، تتهم المقاومة الفلسطينية بالانحراف عن مصلحة الأمّة، كما ذهب الداعية السلفي، عثمان الخميس، الذي يصف حركة حماس بأنها “جماعة منحرفة ارتمت في أحضان إيران”، وهي الثيمة نفسها التي تشتغل عليها أبواق محسوبة على محور الاعتدال الزائف من عيّنة عماد الدين أديب وإبراهيم عيسى وآخرين.
لا تحتاج إلى كثير من الجهد لتكتشفَ أن رجال “حماس” وفصائل المقاومة يمثّلون الملمح الوحيد الباقي للاعتدال الأخلاقي والحضاري في أمّةٍ فيها من يتحالف مع أعدائها ضدّ أنبل ما فيها، بينما الانحراف الحقيقي هو”اعتدال” ذلك المولود اللقيط، الذي أعلنه وبشّر به بنيامين نتنياهو للمرّة الأولى في العام 2014، عقب العدوان الإسرائيلي على غزّة، حين تحدّث عن “حلف إقليمي جديد” يجمع إسرائيل ودولاً عربية، باتت تُعرَّف بأنها “معسكر الاعتدال” للتصدي لإيران، وهو ما تأكّد في يونيو/ حزيران 2017، في مؤتمر هرتسليا السنوي للأمن القومي الصهيوني، الذي كان موضوعه الرئيس الدفع بتشكيل تحالف صهيوني سُنّي، للدفاع عن المصالح المشتركة بين إسرائيل وعرب اعتدال، والذي لخّص فكرته وزير الأمن العام في إسرائيل، جلعاد أردان، حسب ما نقل موقع ميدل إيست آي، بالقول: “هناك فرصة تاريخية لإقامة ائتلاف جديد بين إسرائيل والدول الغربية الأخرى والدول العربية والسُنّية، بالاستناد إلى المصالح المشتركة”، وهو التصوّر الذي فصّله وزير الأمن الإسرائيلي السابق، موشيه يعلون، بالقول إن “مقولة الصراع العربي الإسرائيلي لم تعد حقيقةً واقعةً، لأن إسرائيل لم تعد لديها تناقضاتٌ مع المعسكر السُنّي العربي”.