هناك دائما صراع بين الفساد والإصلاح، ولا وجود لدولة خلت من الفساد والمفسدين، أو خلت من تقاطعات بين مصالح هؤلاء وبعض البنيات السياسية والمؤسساتية، لكن الاصطفاف الرسمي والعلني بقي دائما، عبر التاريخ، إلى جانب دعاة الإصلاح والتخليق والعاملين عليهما.
لكن ما يحري عندنا منذ مدة، هو تحوّل الفساد إلى وجهة نظر، وإلى رأي ينبغي الدفاع عن حقه في التعبير وفي الوجود، تماما مثلما يحاول البعض أن يفهمنا أن ما يجري في فلسطين من عدوان وإبادة ومحرقة على مرأي ومسمع من البشر والحجر في فلسطين، هو مجرّد تعبير عن موقف ينبغي استحضاره والتوسيع له والاعتراف به.
لقد بات النقاش العمومي حول موضوع الفساد يعاني من عملية تضليل وتلبيس شاملة وخطيرة، لدرجة تحوّل معها المناهضون للرشوة واختلاس المال العام وتضارب المصالح والجمع بين المال والسلطة… إلى متهمين، وخارجين عن القانون، بل يكاد البعض يصوّرهم على أنهم جماعة الحشاشين التي تنبعث من تحت رماد التاريخ.
ومن سخرية الصدف، أن يشمل الهجوم كل ما يتحرّك في المشهد لينبت بكلمة ضد الفساد، بما في ذلك مؤسسات الدولة. فلم يعد مقبولا من مؤسسة حكامة أو هيئة رقابة أو مجلس أو مندوبية تخطيط، توجيه أي نقد للسياسات والقرارات العمومية. ليصبح شخص مثل رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، محمد بشير الراشدي، هدفا لهجوم شامل، مثله في ذلك مثل فاعلين مدنيين وحقوقيين مثل محمد الغلوسي.
التقرير السنوي الأخير الذي أصدرته هيئة الراشدي، أثار الجزء الأكبر من هذا الهجوم، كما لو أن الوثيقة تنطوي على كذب أو افتراء أو تزييف. وأكثر ما أثار عليها عاصفة التبخيس والتتفيه، هو الجزء المتعلّق بدراسة أنجزتها الهيئة حول الفساد في أوساط المقاولات.
لم توجّه الهيئة أي اتهام لأي طرف، بل أنجزت دراسة ميدانية بقواعد علمية صارمة، ونشرت نتائجها. واستندت الدراسة المتعلقة بالمقاولات التي تناولها التقرير على عينة شملت 1100 مقاولة، موزعة عبر عشر جهات بالمغرب.
تمثل هذه المقاولات مختلف القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك الفلاحة، والتجارة، والبناء، والصناعة، والخدمات. تم تنفيذ البحث في الفترة الممتدة بين شهري ماي وغشت 2023. واعتمدت الدراسة على استجواب ممثلي المقاولات حول تجاربهم وتصوراتهم فيما يخص الفساد، بما في ذلك تعرّضهم لأشكاله المختلفة مثل الرشوة واستغلال النفوذ، ومدى تقديمهم لشكايات أو تبليغات عن أفعال الفساد.
وأبرز الخلاصات المتعلقة بالمقاولات، كما وردت في التقرير، هي:
- انتشار الفساد: أفادت نسبة %68 من المقاولات التي شملتها الدراسة أن الفساد منتشر أو منتشر جدا في المغرب. وبدا أن قطاع الصحة هو الأكثر فسادًا بنسبة %75، يليه قطاع الإسكان والتعمير والعقار بنسبة %55؛
- العوامل المؤدية للفساد: حددت المقاولات العوامل الثلاثة الرئيسية التي تساهم في تطور الفساد وهي: الرغبة في الثراء السريع (%38)، ضعف الأجور (%26)، وغياب روح المواطنة والمصلحة العامة (%26)؛
- تأثير الفساد على الاقتصاد: يرى ممثلو المقاولات أن تداعيات الفساد تتجسد في إفقار الدولة (%24)، تدهور القيم (%23)، والتوزيع غير العادل للثروات (%19)؛
- مكافحة الفساد في المقاولات: صرحت نسبة %2 فقط من المقاولات بأنها تمتلك برامج أو أجهزة داخلية لمحاربة الفساد، فيما أظهرت المقاولات الكبرى نسبة أكبر في تبني هذه التدابير مقارنة بالمقاولات الصغيرة والمتوسطة؛
- الإجراءات الأكثر فعالية: تعتبر تطبيق القوانين والعقوبات المتعلقة بالفساد، وإرساء قنوات للتبليغ عن أفعال الفساد وحماية المبلغين، من بين الإجراءات الأكثر فعالية التي اقترحتها المقاولات لمحاربة الفساد؛
فما هي الجريمة التي ارتكبها محمد بشير الراشدي؟ أنه واجهنا بما تحمله المقاولات المغربية من تمثل حول الفساد؟ أن هذا الأخير منتشر وشبه سائد؟ أم لأنه قام بعملية بسيطة يمكن أن ينجزها أي تلميذ في الثانوي، لتقدير كلفة الفساد السنوية في المغرب والتي تناهز 50 مليار درهم؟ ألا يستنزف الفساد حسب التقارير الدولية الموثوقة ما بين 3.5 في المئة و6 في المئة من الناتج الداخلي الخام للمغرب؟ ألا تكلّف هذه الظاهرة 4 في المئة من الناتج الخام العالمي، أي قرابة 2000 مليار دولار؟ لماذا لا تثور دول المعمور ضد هذا الرقم بينما نريد نحن تعليق رأس الراشدي لأنه واجهنا بحصتنا منه؟
هناك مغالطة أخرى يتم ترويجها لقطع الطريق على نقاش حيوي وحساس يتعلّق بتجريم الإثراء غير المشروع، وهي الادعاء بأن الأمر يعني خرق قرينة البراءة وتحويل جميع المغاربة إلى متهمين مطالبين بإثبات براءتهم كلما ظهرت عليهم آثار النعمة، ولو تعلّق الأمر ب”قميجة جديدة”.
هذا غير صحيح نهائيا، والجواب المبسّط والدقيق موجود في تقرير هيئة الراشدي حول تجريم الإثراء غير المشروع.
يعرّف التقرير الذي يحمل عنوان “الإثراء غير المشروع نحو تقعيد منظور تشريعي”، جريمة الإثراء غير المشروع على أنها زيادة كبيرة في ثروة الموظف العمومي أو الأشخاص التابعين له بشكل لا يتناسب مع مداخيلهم المشروعة، ويكون الموظف عاجزاً عن إثبات مشروعية هذه الزيادة.
وترتكز هذه الجريمة على عنصرين أساسيين: الزيادة الكبيرة في الثروة والعجز عن إثبات مصدر مشروع لتلك الزيادة.
وتحريك أية متابعة ضد أي مسؤول أو موظف عمومي بشبهة الإثراء غير المشروع، مشروط بتوفّر ثلاثة عناصر، لا يمكنه مطالبته بإثبات مصدر ثورته بدونها:
- التباين الواضح في الثروة: يشترط وجود تباين كبير بين دخل الموظف وما يملكه من أصول وممتلكات، بحيث يكون غير مبرر بمداخيله المعروفة والمشروعة؛
- ارتباط الزيادة بالوظيفة: يُفترض أن تكون الزيادة في الثروة قد حدثت بعد تولي الموظف لوظيفته، أو خلال فترة أداء مهامه، بحيث يظهر أن تلك الزيادة لا تتناسب مع موارده المالية المعروفة؛
- عجز الموظف عن إثبات المشروعية: يتعين على الموظف تقديم ما يثبت أن الزيادة الكبيرة في ثروته تمت بطرق مشروعة. في حال فشله في ذلك، يتم توجيه الاتهام له بجريمة الإثراء غير المشروع.
وفقا لهذه الشروط الدقيقة والصارمة يمكن قلب عبئ الإثبات، أي مطالبة الموظف أو المسؤول بإثبات براءته، بدل إثبات الغير لمخالفته للقانون. فأين هو ضرب قرينة البراءة؟
كانت هيئة بشير الراشدي قد ناقشت مع الحكومة الحالية مسودة مشروع قانون حول تنازع المصالح، قبل أن يشملها البلوكاج الذي يفرضه أخنوش على هذه المؤسسة الدستورية تماما كما فرض البلوكاج على تشكيل الحكومة بعد انتخابات 2016.
ماذا يقول تقرير الهيئة حول هذا المشروع؟
إنه يُعرّف تنازع المصالح بأنه الحالة التي يكون فيها للموظف العمومي مصلحة مادية أو معنوية قد تتعارض مع ما تقتضيه وظيفته من نزاهة واستقلالية وحياد. وتشمل هذه المصلحة، سواء كانت شخصية أو تتعلق بأفراد أسرته، أو أصدقائه، أو خصومه، أو أي شخص يرتبط به بعلاقة مهنية أو شخصية.
وتقترح هذه الوثيقة مجموعة طرق لمحاربة تنازع المصالح وهي:
- التصريح بالمصالح: يقترح التقرير إلزام الموظفين العموميين بالإفصاح عن جميع مصالحهم المهنية والمالية، سواء كانت متعلقة بوظائفهم الحالية أو السابقة، أو مشاركتهم في مجالس إدارات أو امتلاكهم لأسهم في شركات.
- الرصد والتحقق: تعزيز الأنظمة الإلكترونية لرصد حالات تنازع المصالح والتبليغ عنها، مع تشجيع المجتمع المدني ووسائل الإعلام على ممارسة دور رقابي فعال.
- التدابير التصحيحية: يوصي التقرير بتطبيق مجموعة من التدابير، مثل تنحي الموظف عن المصلحة المتنازع عليها، أو نقل الموظف إلى وظيفة أخرى، أو حتى التوقف عن ممارسة الأنشطة التجارية في حالة التنازع.
- العقوبات: يقترح التقرير فرض عقوبات إدارية وجنائية تتناسب مع خطورة المخالفة.
فما هي الجريمة التي تنطوي عليها هذه الوثيقة؟
إننا أمام سياسة عمومية ممنهجة، تعبّر عنها الحكومة بقراراتها وإجراءاتها وتصريحاتها، لتكميم أفواه المناهضين للفساد والرشوة وتضارب المصالح والاغتناء غير المشروع.
والدليل الأخير الذي قدّمته هذه الحكومة هو مشروع قانون المسطرة الجنائية والذي لا يمنع المواطنين وجمعياتهم من التبليغ عن الفساد فقط، بل يمنع النيابة العامة نفسها من تحريك أي دعوى متعلقة بالمال العام، دون أن يأتيها طلب رسمي من جهات أغلبها خاضع للحكومة.
فهنيئا للفاسدين وويل للمصلحين!