كاينابريس – د. نايف بن نهار(*)
لا يُعلّمك القرآن كيف تعبد الله فقط، بل يعلّمك كيف تعيش حياتك، كيف تجعل نفسك مطمئنة لا تهتز كلما اهتزت الحياة، كيف تكسب الناس، كيف تحيّد أعداءك، متى تواجه ومتى تُعرِض، القرآن باختصار يشرح لك طبائع النفس الإنسانية وقوانين الاجتماع الإنساني بأعجب ما يكون.
يعلمك القرآن كيف تحب الخير للآخرين، وألا تتمنى ما فضلّ الله به الآخرين، وهكذا تعيش مطمئنًا بعيدًا عن قلق المقارنات. يعلمك القرآن أن تحسن الظن بالآخرين؛ ومن جرّب حسن الظن أدرك عظيم تأثيره على اطمئنان النفس وحماية العلاقات الاجتماعية، أما سوء الظن فهو مدخلٌ لكل الآفات.
يعلمك القرآن عند الخلاف {ولا تنسوا الفضل بينكم}، اختلفت مع صديقك، مع زوجتك، مع شريكك في التجارة، تذكر دائمًا هذه القاعدة التي تطالبك في لحظة الغضب أن تفعّل الذاكرة الإيجابية التي جمعت بينكما، وتفعيل هذه الذاكرة ينهي مشاعر الانتقام التي تسيطر على الإنسان عند الاختلاف.
يعلمك القرآن أن تتجاوز ذاتك لتفكّر بالنفع الجماعي، يعلمك أن تبني طموحاتك بناء على احتياجاتك لا رغباتك، يعلمك عزة النفس والكبرياء والأنفة عن الذل والخضوع، يعلمك كيف تكون فاعلاً في مجتمعك، تشاركهم أفراحهم وأحزانهم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتتعاون على البر والتقوى.
يعلمك القرآن أن تواجه الآخرين بأخطائهم، لا أن تكون جبانًا تذكر عيوبهم من وراء ظهورهم، فإن لم تكن شجاعًا في مواجهة الآخرين بأخطائهم فيكفيك الصمت، وإذا وجدت إنسانًا يستمتع بأعراض الناس فيجب أن توقفه، فإن لم تستطع فلا تتفاعل معه على الأقل، صمتك سيخبره مباشرةً بدناءة ما يفعل.
يعلمك القرآن أن التميّز يصنع الأعداء، حتى من أقرب الناس إليك كما في قصة يوسف، فإياك أن تدخل معارك مع حاسديك مهما كنت قادرًا على الانتصار، فالحاسد مشروعه إيقافك، ونجاحه في أن تلتفت إليه، ولذلك حدد هدفك بوضوح، وكل معركة ليست على جبهة هذا الهدف لا تلتفت إليها.
يعلمك القرآن أن تقول للناس حُسنًا، فالكلمة الطيبة فرعها في السماء لا تدري أين يصل تأثيرها، فكم من إنسان تغيرت حياته بسبب كلمة، ولا يوجد مثل سحر الكلمة في تأثيرها على النفس الإنسانية. ويعلمك القرآن أنَّك واجدٌ في الناس من تُحسن إليه فيسيء إليك، لا تحمل همه؛ لأنك ترجو ما عند الله لا ما عنده.
ويعلّمك القرآن أن كل صفاتك السيئة قابلة للإصلاح، والأمر بيدك أنت {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}، فلا تعتذر بأن هذا هو طبعك. ويعلمك القرآن أن تراكم خذلان صوت الضمير يؤدي إلى صلابة فساد النفس {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.
يعلمك القرآن ألا تحاور إلا بالتي هي أحسن؛ لأن الأفكار تمر إلى العقول من بوابة المشاعر، فما لم يكن حديثك مراعيًا للمشاعر فستغلق الباب في وجه فكرتك فلا تصل إلى عقل المتلقي. ويعلمنا القرآن أن الحوار إنما يكون مع الصادقين، أما المكابرون فيأمرنا ألا نضيع أوقاتنا معهم {وأعرض عن الجاهلين}.
يعلمك القرآن أن تعالج جذور المشكلات لا نتائجها، ولذلك تجده يصحح التصورات قبل المعتقدات والممارسات، {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} فنحن مستخلفون لا مستقلون، وإذا اقتنع الإنسان أنه مستخلف فمن الطبيعي أن ينفق في سبيل الله، هكذا صحة التصور تقود لصحة الممارسة.
يعلمنا القرآن أن البشر خلقوا متساوين، لا مزية لعرق على آخر، ولا لقبيلة على أخرى، ولا لجنس على آخر، ويعلّمنا أن هذه المساواة ضرورية للانطلاق لفكرة “التعارف”، فمن يعتقد أنه أفضل من الآخرين فلن يرى أهمية للتعارف، وهذا سر بدء الآية بفكرة المساواة ثم ربطها بمقصد التعارف.
كثيرةٌ هي التوجيهات القرآنية التي تجعل حياتنا سعيدة ومطمئنة، ومن يتدبّر معاني القرآن ويوظّفها في إصلاح نفسه ومجتمعه سوف يكون أكثر الناس فرحًا بوجود القرآن؛ لأنه حسم له الطريق الموصلة إلى السعادة، ويدرك حينها معنى قوله تعالى: {فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون}.
(*) كاتب وأكاديمي، مدير مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة قطر.