سُمِّيَ يومُ بدرٍ يومَ الفرقان، ولهذه التَّسمية أهمِّيَّةٌ عظيمةٌ في حياة المسلمين، وقد تحدَّث الأستاذ سيِّد قطب، عن وصف الله تعالى ليوم بدرٍ بأنه يوم الفرقان، في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41]. فقال: لقد كانت غزوة بدر، الَّتي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده فرقاناً بين الحقِّ والباطل، كما يقول المفسرون إجمالاً، وفرقان بمعنى أشمل وأدق وأوسع وأعمق كثيراً.
كانت فرقاناً بين الحقِّ والباطل فعلاً، ولكنَّه بين الحق الأصيل، الَّذي قامت عليه السَّمواتُ والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء، الحق الَّذي يتمثَّل في تفرُّد اللهِ سبحانه بالألوهيَّة والسُّلطان والتَّدبير والتَّقدير، وفي عبودية الكون كلِّه؛ سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفرِّدة، ولهذا السُّلطان المتوحِّد، ولهذا التدبير وهذا التَّقدير بلا معقِّبٍ ولا شريك، وبين الباطل الزَّائف الطَّارئ، الَّذي كان يعمُّ وجه الأرض إذ ذاك، ويُغْشِي على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيتَ تتصرَّف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواءَ تُصَرِّفُ أمر الحياة والأحياء.
فهذا الفرقان الكبير الَّذي تَمَّ يوم بدرٍ، حيث فرَّق بين ذلك الحقِّ الكبير وهذا الباطل الطَّاغي، وزَيَّل بينهما، فلم يعودا يلتبسانِ.
لقد كانت غزوة بدر فرقاناً بين الحقِّ والباطل بهذا المدلول الشَّامل الواسع، الدَّقيق العميق على أبعادٍ وآمادٍ، كانت فرقاناً بين هذا الحقِّ وهذا الباطل في أعماق الضَّمير، فرقاناً بين الوحدانيَّة المجرَّدة المُطْلَقَةِ بكلِّ شُعَبِها؛ في الضَّمير والشُّعور، وفي الخُلُق والسُّلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشِّرك في كلِّ صوره؛ الَّتي تشمل عبودية الضَّمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقِيَم، والأوضاع والتَّقاليد والعادات، وكانت فرقاناً بين هذا الحقِّ وهذا الباطل في الواقع الظَّاهر كذلك، فرقاناً بين العبودية الواقعيَّة للأشخاص والأهواء وللقِيَم والأوضاع، وللشَّرائع والقوانين، وللتَّقاليد والعادات، وبين الرُّجوع في هذا كله لله الواحد الَّذي لا إله غيره، ولا حاكم دونه، ولا مشرِّع إلا إيَّاه، فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس فلا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحرَّرت القطعان البشريَّة؛ الَّتي كانت مستعبدةً للطُّغاة.
وكانت فرقاناً بين عهدٍ في تاريخ الحركة الإسلاميَّة، عهد المصابرة والصَّبر والتَّجمُّع والانتظار، وعهد القوَّة والحركة والمبادأة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصويراً جديداً للحياة، ومنهجاً جديداً للوجود الإنسانيِّ، ونظاماً جديداً للمجتمع، وشكلاً جديداً للدَّولة، بوصفه إعلاناً عامّاً لتحرير الإنسان في الأرض؛ بتقرير ألوهيَّة الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطَّواغيت الَّتي تغتصب ألوهيته (سيد قطب، 1980، ص 3/1521- 1522).
إلى أن قال: وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحقِّ والباطل بمدلولٍ آخر، ذلك المدلول الَّذي يوحي به قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ [الأنفال: 7- 8].
لقد كان الَّذين خرجوا للمعركة من المسلمين؛ إنَّما خرجوا يريدون عِيرَ أبي سفيان، واغتنام القافلة، فأراد الله لهم غير ما أرادوا؛ أراد لهم أن تُفلِتَ منهم قافلةُ أبي سفيان (غير ذات الشَّوكة)، وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشَّوكة)، وأن تكون معركةً وقتالاً، وقتلاً وأسراً، ولا تكون قافلةً وغنيمةً، ورِحْلةً مريحةً، وقد قال الله سبحانه (إنَّه صنع هذا): ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾، وكانت هذه إشارةٌ لتقرير حقيقةٍ كبيرةٍ…
إنَّ الحقَّ لا يحقُّ، وإنَّ الباطل لا يبطلُ -في المجتمع الإنسانيِّ- بمجرَّد البيان النَّظريِّ للحقِّ والباطل، ولا بمجرَّد الاعتقاد النظريِّ بأنَّ هذا حقٌّ وهذا باطلٌ، إنَّ الحقَّ لا يحقُّ، وإنَّ الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا النَّاس، إلا بأن يتحطَّم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتمُّ إلا بأن يغلب جند الحقِّ ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا.. فهذا الدِّين منهجٌ حركيٌّ واقعيٌّ، لا مجرَّد نظريةٍ للمعرفة والجدل، أو لمجرد الاعتقاد السَّلبيِّ!
ولقـد حقَّ الحقُّ وبطـل الباطل بالموقعـة، وكان هذا النَّصر العمليُّ فرقاناً واقعيّـاً بين الحقِّ والباطل بهذا الاعتبار، الَّذي أشار إليه قولُ الله تعالى في معرض بيان إرادته سبحانه من وراء المعركـة، ومن وراء إخراج الرَّسول ﷺ من بيتـه بالحقَّ، ومن وراء إفـلات القافلـة (غير ذات الشَّوكـة)، ولقاء الفئـة (ذات الشَّوكة).
ولقد كان هذا كلُّه فرقانـاً بين منهـج هذا الدِّين ذاتـه، تتَّضح به طبيعـة هذا المنهج، وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم، وإنَّه لفرقان ندرك اليوم ضرورته، حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدِّين من تَمَيُّعٍ في نفوس من يسمُّون أنفسهم مسلمين!، حتى ليصل هذا التميُّع إلى مفهومات بعض مَنْ يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين! وهكذا كان يوم بدر: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال: 41] بهذه المدلولات المنوَّعة الشَّاملة العميقة. وفي هذا اليوم مَثَلٌ من قدرته على كلِّ شيء ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ﴾، مثلٌ لا يجادِل فيه مجادلٌ، ولا يُماري فيه ممارٍ، مثلٌ من الواقع المشهود؛ الَّذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله، وأنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير (سيد قطب، 1980، ص 3/1523- 1524).
المراجع:
1. سيد قطب، (1980)، في ظلال القرآن، دار الشُّروق، الطَّبعة التَّاسعة، 1400هـ/ 1980م.
2. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 28-30.