كاينابريس – يونس مسكين(*)
حسنا فعلت رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أمينة بوعياش، حين تطرّقت ببعض التفسير إلى المذكرة التي قدّمها المجلس للهيئة التي كانت مكلفة بإدارة النقاش حول إصلاح المدونة.
رغم أنه خروج متأخر إلا أنه كان ضروريا. وكان أثره سيكون إيجابيا لو أنه صدر في لحظة النقاش الحارق. لكنه يظل مهما. خاصة بعدما تدخّل الملك بشكل استثنائي، أي أنه لم يكن مبرمجا في السابق حين وضعت الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة مسطرة تعديل المدونة، وأحال مقترحات الهيئة على المجلس العلمي الأعلى لإبداء الرأي في فتوى اعتبرها الملك ضرورية وتندرج ضمن اختصاص حصري لهذه المؤسسة.
لقد كان هناك خلل منهجي منذ انطلاقة مسار تحضير المقترحات التي سينظر فيها الملك قبل أن يمنح رئيس الحكومة الضوء الأخضر لتحويلها إلى مشروع قانون تقدّمه وزارة العدل إلى البرلمان كي يصادق عليه. والخلل تجسّد في سلوك انتهازي لبعض النخب والهيئات والتيارات السياسية المحسوبة على اليساريين والحداثيين.
كانت التركيبة الأصلية للهيئة التي أمر الملك رئيس الحكومة بتشكيلها، تقتصر على الأسرة القضائية، أي المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة ووزارة العدل، وهو ما كان ينطوي على دلالة واحدة: القصد من التعديل هو إدخال تعديلات تقنية تحد من الاختلالات التي أبان عنها تطبيق مدونة الأسرة.
تم توسيع دائرة المشاركة في أشغال الهيئة بشكل يعكس نية الاستدراك وتعديل الكفة. وتم ضم كل من المجلس الوطني لحقوق الانسان ووزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، و… المجلس العلمي الأعلى.
لكن سلوك الفاعلين المعنيين بهذا المسار ظل يوحي بوجود نية لدى طرف واحد في فرض رؤيته، واستغلال فرصة أتيحت بتأطير وتوجيه ملكيين، لتمرير أجندة أيديولوجية محضة، وبشكل قسري.
القراءات السميولوجية التي قام بها عموم الناس للصور التي كان ممثلو المجلس العلمي الأعلى يبدون فيها غاضبين، أو هامشيين، لم تكن مجانبة للصواب. وكم مرة كتبنا هنا في هذا العمود بالذات، وعبر تقارير إخبارية أخرى، أن المشاورات عرجاء، ومائلة، وتُشعر المجتمع بوجود نية لقهر فئة العلماء وإرغامها على تزكية ما لا توافق عليه، بدل مناقشتها ودعوتها للانخراط في المسار بروح منفتحة على الاجتهاد والتجديد.
وتابعنا جميعا كيف تحوّل العالم مصطفى بنحمزة إلى مستغيث ومطالب بحقه وحق الفئة التي يمثلها في المشاركة في النقاش العمومي، بما في ذلك عبر الإعلام الرسمي. لم ينصت له أحد، واضطر للخروج عبر منصات رقمية خاصة.
كما نقلنا بشكل حصري في هذه الجريدة صرخة ممثل مجلس العلماء في المجلس الوطني لحقوق الانسان، وانسحابه المثير من أحد اجتماعاته. وسمعنا لاحقا من مصادر حضرت اللقاء أن الحوار الذي دار بينه وبين رئيسة المجلس أمينة بوعياش، كان مؤسفا، وبعث إشارة جديدة على وجود نية ما لتمرير إصلاح، قد يكون متقدما للغاية، لكنه ملفوف بطبقة سميكة من القهر والإجبار.
لكل هذا لم تكن الخطوة الملكية الأخيرة، القاضية بإحالة الملف على هيئة الإفتاء بالمجلس العلمي الأعلى، مجرد إحراء تقني بسيط. بل هي إرجاع للأمور إلي نصابها الدستوري ومنطقها المؤسساتي الذي بدأ بتدخّل ملكي بصفته أميرا للمؤمنين.
يحلم الكثيرون، وأنا منهم، بتطوير التشريعات الوطنية التي تمس الحقوق والحريات الفردية والجماعية، بشكل يجعلها تتناسب مع منطق العصر، وتتجاوز بعض القيود العتيقة التي تجاوزها الزمن… لكن المنطق السليم يستوجب احترام المنهج المؤسساتي، والتأسيس لهذه الإصلاحات من داخل المرجعيات الوطنية المتوافق عليها لدرجة تشبه الإجماع.
ما لا تفهمه السيدة بوعياش ومن كانوا يخوضون في نقاش تعديل المدونة بمنطق انتهاز الفرصة للإجهاز على الخصم الأيديولوجي، هو أن التقدميين المغاربة الذين كانوا يحملون مشاريع سياسية حقيقية لتطوير المغرب، كانوا يخاطبون المغاربة من داخل مرجعياتهم الثقافية والدينية.
كان اليساريون الأكثر ثورية يتحدثون مع المغاربة لغتهم الدينية، ويستنبطون منها ما يحمل على التغيير والتطوير والتحديث، ولا يسقطون عليهم الإملاءات الدولية كما تسقط القنابل من المسيّرات العمياء.
على من يدّعون التقدّمية في المغرب، أن يدركوا أنه ومهما مالت قناعات بعض المغاربة نحو طروحاتهم، فإنهم لن يثقوا بهم ما لم يروا حداثيتهم المزعومة في سلوكهم كفاعلين سياسيين ومؤسساتيين.
كيف للمغربي أن يثق في مذكرات ووثائق تزعم السعي إلى التحديث، بينما القائمون عليها لا يبدون من الحداثة في سلوكهم السياسي وخطابهم، ومواقفهم، سوى القشور؟
نريد أن نرى التقدّمية في الانتصار للاختيار الديمقراطي، والدفاع عن العدالة الاجتماعية، والتصدي لتجاوزات السلطة، وكشف اللوبيات التي تخترق الدولة والمؤسسات، وفي الشفافية في التدبير حين يعيّن من يدّعون التقدمية على رأس المؤسسات. نريد أن نسمعهم ونلتقي بهم في الندوات والصالونات والأحداث السياسية والاجتماعية التي تستدعي التدخل والوساطة والمواكبة.
لا يمكنك أن تكون محافظا، بل ورجعيا، في تولي المسؤوليات والخضوع للأعراف والتقاليد، وما يسمّونه ظلما واجب التحفظ، والانسحاب المفاجئ من ساحات النقاش حين تصدر إشارة بسيطة من “الفوق”… ثم تلقي إلينا بوثيقة تدّعي أنها تنهل من مرجعية حداثية وتقدّمية. هذا السلوك يؤدي إلى رد فعل عكسي من المجتمع، خاصة من فئة عريضة من الطبقة المتوسطة والمسيّسين غير المؤدلجين.
لقد منحت الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة بشأن تشكيل هيئة لتحضير مقترحات لتعديل المدونة، فرصة نادرة لتجاوز بعض الإشكالات التي أبانت عنها الممارسة القضائية. لكن الانتهازية التي أبان عنها البعض منذ البداية، واستمرت إلى ما بعد تقديم رئيس الحكومة لخلاصات أشغال الهيئة للملك، حين تم “تسريب” ما جرى تقديمه على أنه تعديلات ستدخل المدونة، بمنطق يغلب عليه هاجس الفرض والإملاء، (تلك الانتهازية)، جعلت الملك، بوصفه المؤسسة الأكثر إدراك لأهمية التوازنات التي تقوم عليها البنية المؤسساتية، وضرورة تناغمها ولو في حدود دنيا، مع الواقع الاجتماعي، يتدخّل لتصحيح المسار.
اليوم، بات الملف برمّته بين أيدي من اعتقد البعض أن عدم تعيينهم للوهلة الأولي في الهيئة الملكية لتعديل المدونة، إشارة على الرغبة في إقصائهم من النقاش، وحملهم على قبول ما لا يقتنعون به. وبات هذا المنطق الانتهازي اليوم مطالبا بانتظار فتوى لجنة من بين أعضائها مصطفى بنحمزة، الذي كان يطالب بمجرد ظهور تلفزيوني.
وفي الجانب السياسي، لابد من الاعتراف مهما بلغ فينا الخوف من تأويلات ذلك، بأن عبد الاله ابن كيران هو المنتصر الأكبر في المعركة التي كان يخوضها لوحده تقريبا. لقد تبيّن أن الرجل ورغم عاملي السن والموقع الانتخابي المتواضع لحزبه، ما زال يعرف متى يتحدّث ومتى يصمت. فقد خرج دون اقتناع كبير من “إخوانه” بمختلف مواقعهم لخوض معركة كانت تبدو دونكيشوتية، ثم فضّل عدم التعليق حين اتصل به زملاؤنا للتعليق على القرار الملكي بإحالة الملف على هيئة الإفتاء.
لقد حاول البعض أن يعمل بمنطوق المثل الشعبي: “طاحت الصمعة علّقوا الفقيه”، حين تم تصوير إشكالات الأسرة المغربية كما لو أنها نتيجة لقصور وممانعة “الفقيه” وحده، والذي يجب كسر شوكته وإقصاؤه.
لينتهي الأمر، وإن لم تكن القصة قد انتهت بعد، بالفقيه نفسه حائزا لما يشبه الكلمة الأخيرة…
لقد حاولوا تعليقه فعلّقهم.
(*) صحفي وباحث مغربي