كاينابريس – يونس مسكين(*)
يبدو أن الموت في جماعة الرباط لم يعد مانعا للحصول على راتب شهري، حيث تُصرف الأجور بكل سخاء لموظفين فارقوا الحياة وآخرين تقاعدوا. ومن لم يحالفه الحظ بالموت أو التقاعد، فيمكنه الجلوس في مكتبه بلا مهمة تُذكر، أو تقديم شهادة طبية لا أحد سيتثبت من صحتها، أو حتى أن تُرسل في “مهمة عمل” إلى جمعية غير معروفة، وطبعًا، الأجر ثابت، وهو أجر الدنيا الذي يصرف من المال العام، وليس أجر الآخرة.
فقد كشف تقرير للمجلس الجهوي للحسابات، لجهة الرباط سلا القنيطرة، عن سلسلة من الفضائح التي تهم تدبير الموارد البشرية لمجلس مدينة الرباط.
معطيات تعيد إلى الأذهان السؤال القديم الجديد: كيف يمكن أن تُدار مدينة بحجم الرباط، عاصمة المملكة، بهذه الدرجة من اللامبالاة؟ وهل يمكننا في ظل كل هذه الفضائح أن نتباكى ونشتكي من “تبخيس” عمل المنتخبين وتسفيه ممارسات السياسيين؟
إن ما ورد في التقرير يشبه إلى حد كبير رواية مأساوية، يتداخل فيها الإهمال مع الفساد، وتغيب فيها العدالة والحد الأدنى من المساءلة.
لنتخيّل صورة إدارة تُصرف فيها رواتب موظفين غادروا هذا العالم إلى الدار الآخرة، وآخرين ودعوا مسرح العمل إلى راحة التقاعد، ومع ذلك تستمر الجماعة في منحهم أجورًا لا يستحقونها. وعشرات الموظفين الذين يتلقون أجورهم من المال العام، لا مهام لهم أو هم في عداد الفائض، أي أنهم عمليا في قائمة “الأشباح”.
يقال عادة إن هذه الكائنات لا تظهر إلا في العتمة، وهنا نقف بالتقارير الموثقة على أشباح حقيقية في مدينة يقال لها “عاصمة الأنوار”.
ما الذي يدفع إدارة مسؤولة عن المال العام إلى هذا الإهمال؟ أهو نقص في الكفاءة أم تواطؤ مع الفساد؟ أم أن المسألة أعمق، وتتعلق بثقافة إدارية ترى في المال العام إرثًا مفقودًا، يمكن العبث به دون خوف من العقاب؟
لقد وقف المجلس الجهوي للحسابات على ست حالات لموظفين متوفين أو متقاعدين، استمرت الجماعة في صرف أجورهم.
هذه ليست مجرد أخطاء إدارية بسيطة، بل هي إشارات مقلقة على انهيار في منظومة الرقابة الداخلية. وعطب في نظام يفترض فيه أن يعمل بدقة الساعات السويسرية، وجهاز إداري يشتغل بمنطق “دار لقمان على حالها”، حيث لا يكترث أحد لمصير المال العام.
هذه ليست الحكاية الوحيدة في سجل الإهمال. فالتقرير يشير أيضًا إلى وجود 136 موظفًا في الجماعة بدون مهام محددة، يجلسون في مكاتبهم بلا عمل حقيقي. في حين تعاني مصالح أخرى من فائض في الموظفين، حتى أن المكاتب لم تعد قادرة على استيعابهم جميعًا.
وأحصى المجلس الجهوي للحسابات 1540 رخصة طبية مودعة لدي مصالح الجماعة من طرف الموظفين بغرض الغياب عن العمل، دون أن تلجأ الجماعة ولو مرة واحدة إلى طلب فحص مضاد من أجل التأكد من صحة الشواهد المقدمة إلى غاية 2022، وهي السنة التي تم فيها إخضاع 28 حالة للخبرة التي أفضت إلى تأكيد صحة 11 شهادة طبية فقط، دون الحسم في البقية.
هنا نرى صورة من العبث الإداري، حيث تُدار الأمور بطريقة عشوائية، لا تعتمد على التخطيط ولا على توجيه الموارد البشرية حيث تكون الحاجة فعلية.
كيف يمكن أن نتحدث عن تنمية وإصلاح في مدينة تعاني من هذا النوع من الإهمال؟ وإذا كان هذا حال الرباط، وما أدراك ما الرباط في تمثل عموم المغاربة لحال البنيات الإدارية للعاصمة، يمكن أن نتصوّر ما سيكون عليه الحال في باقي الجماعات.
الأكثر غرابة في هذا التقرير هو وضع موظفين رهن إشارة جمعيات غير عمومية، مع استمرار الجماعة في دفع رواتبهم. كيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ وكيف يمكن تبريره؟ أليس في هذا تضارب صارخ مع القوانين التي تحكم الوظيفة العمومية؟
يبدو أن جماعة الرباط قررت تجاوز كل الأعراف والقوانين، لتدخل في عالم من الفوضى الإدارية، حيث يمكن لكل شيء أن يحدث دون حساب أو عقاب.
ويكتمل المشهد بتعيين موظفين في مراكز لا تتطلب وجودهم، مثل المركز الاجتماعي عين عتيق، حيث تم تعيين سبعة موظفين بدون أي إطار تعاقدي أو تحديد للمهام.
هذه الممارسة تفتح الباب واسعًا أمام الانتقالات التعسفية والقرارات الاعتباطية، وتؤكد أن الجماعة تُدار بمنطق بعيد كل البعد عن المهنية والشفافية.
لكن وسط هذه الصورة القاتمة، يظهر ضوء خافت يحمل بصيص أمل.
تحرك المجلس الجهوي للحسابات للتحقيق في هذه الفوضى الإدارية، بعد تصريحات متضاربة لمسؤولين ومنتخبين، ووقوفه على هذه الخروقات، يعد خطوة مهمة نحو محاسبة المسؤولين ووضع حد لهذه الممارسات.
بعمله هذا، يثبت المجلس الجهوي للحسابات أن هناك مؤسسات ما زال بإمكانها العمل على حماية المال العام، والمساهمة في كشف التجاوزات التي تهدد مستقبل التنمية في المدن المغربية.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن إغفال الدور الذي يلعبه بعض السياسيين والمنتخبين.
الصورة ليست بالقتامة التي تهيمن على المشهد.
في حالة الرباط مثلا، طالما أثار ممثلو فيدرالية اليسار الديمقراطي الانتباه إلى اختلالات تدبير الموارد البشرية في جماعة الرباط، وهم يقدمون اليوم نموذجا للمساهمة التي يمكن أن يقدمها المنتخبون في حماية مصالح المواطنين.
إن وجود سياسيين واعين بمسؤولياتهم، ومستعدين لمواجهة الفساد، هو ما نحتاج إليه في هذا الوقت الحرج. لقد أثبتت تجربة بعض المنتخبين أن الصوت الشجاع يمكن أن يحدث فرقًا، وأن محاربة الفساد لا تتطلب فقط مؤسسات رقابية، بل تحتاج أيضًا إلى سياسيين نزهاء يضعون مصلحة المواطنين فوق كل اعتبار.
لا يسعنا إلا أن نطالب بمحاسبة كل من تورط في هذه الفضائح، وإعادة الأمور إلى نصابها. فإدارة مدينة من حجم الرباط، باعتبارها عاصمة وتحظى بتمويل ومواكبة كبيرين، يجب أن تكون في خدمة المواطن، لا في خدمة مصالح ضيقة لفئة قليلة.
جماعة الرباط تحتاج إلى نهضة حقيقية، تبدأ من احترام القانون، وتطبيق مبادئ الشفافية والمحاسبة. ووجود مؤسسات رقابية نشطة، وسياسيين نزهاء ومجتمع مدني يقظ… وهو ما يمكن أن ينقذ المال العام من السقوط في هاوية الفساد والإهمال.
فهل نحن قادرون على تحقيق هذا الحلم، بترتيب الجزاءات وربط المسؤولية بالمحاسبة؟ أم أن دار الرباط ستظل على حالها؟
(*) صحفي وباحث مغربي