كاينابريس – ماهر الملاخ(*)
يستحيل ألا يلفت انتباهك، وأنت تتجول في شوارع المدينة المغربية، ذلك الكم الهائل، من لافتات المتاجر، ولوحات الإشهار، وعناوين المجلات والجرائد، وقد صيغ معظمها بلغة موليير، وكأن الشارع “شانزيليزي”، وكأن المدينة باريس.
فمن هنا مرت فرنسا، مخلفة آثارها على لسان حديث الناس، وسبورة المدارس، وسوق المال والأعمال، ولون الفن والإعلام.
سطوة فرنسية شاملة، يعتبرها البعض: “غنيمة حرب”. فيما يراها الآخرون: “قفازة حرير، لحرب لم تنته بعد”.
انتصار المجلس للمذكرة
“في بداية أشغال المجلس (الوزاري)، قدم السيد وزير التربية الوطنية والتكوين المهني، عرضا بين يدي جلالة الملك، حول التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة، في ما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي 2015-2030.وقد .. أكد أنه تنفيذا للتعليمات الملكية السامية، سيتم إعطاء الأسبقية لجودة التعليم العمومي، وللانفتاح على اللغات الأجنبية، خاصة في تدريس المواد والتخصصات العلمية والتقنية.”
هكذا جاء في نص البلاغ الذي تلاه الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، ليحسم الاجتماع الوزاري سجالا سياسيا صاخبا بين بنكيران ووزيره بلمختار الذي أعد مشروعه دون التنسيق معه.
ولينتصب السؤال التالي:
كيف يتحول موضوع دورية “عادية” لوزير في حكومة إلى موضوع سجال وطني، كشف تزاحم وتضارب صلاحيات بين وزير ورئيس حكومة ورئيس دولة؟
سؤال من نفس النوع سبق أن طرحناه على أنفسنا، ونحن نصور، قبل سنوات قليلة، فيلما وثائقيا حول: الفرنكوفونية في المغرب ، حيث تقدمنا بطلب لاستجواب السفير الفرنسي بالبيضاء، فطلب منا تقديم الأسئلة مكتوبة، وهو ما استجبنا له بسرعة. غير أنه حينما طال بنا المطاف ونحن ننتظر الجواب، بُلّغنا أن أسئلتنا قد تم تحويلها على الخارجية الفرنسية التي ستتولى الجواب عنها مكتوبة.
بطبيعة الحال لم نتوصل بالأجوبة لا مكتوبة ولا “مشفوهة”.
وكما أن أسئلتنا لم يكن من الطبيعي أن تبقى معلقة إلى اليوم، فكذلك دورية بلمختار لم تكن لتأخذ تلك الأبعاد المعقدة.. لولا طبيعة ما تتضمنه من موضوع مزمن لا يزال المغرب، ومنذ الاستقلال، يتأرجح في الحسم فيه.
ولكي نحاول اكتشاف بعض من خلفيات ما جرى وسيجري بهذا الخصوص، لا بد لنا من أن نتطرق إلى طبيعة المشروع الفرنكوفوني وتاريخه وأيديولوجيته ومؤسساته، ثم نعرج على آثاره المباشرة على التعليم والاقتصاد كمنوذج لتفعيل سياسته، لنقيم في الأخير ما ربح المغرب وما خسر في علاقته باللغة الفرنسية.
ليست مجرد لغة
حينما نحاول كشف حقيقة الفرنكوفونية، فنحن بالتأكيد لا نتحدث عن اللغة الفرنسية بحد ذاتها كلغة ، ولا عن ضرورة انفتاح المغرب على تعلم اللغات الأجنبية والفرنسية من ضمنها.. وإنما نتحدث عن منظومة ثقافية تمت صياغتها في شكل مشروع للهيمنة، مسكون بأيدولوجية شوفينية، تحتقر الشعوب المسماة لديها “بالبربرية”. وتوظف لذلك مؤسسات دولية وإقليمية ومحلية.
والشواهد على ذلك متعددة وموثقة عن كبار مثقفي فرنسا وقادتها السياسيين، لا فرق في ذلك بين يميني أو يساري، مع التأكيد على الاستثناءات التي تثبت القاعدة.
ويكفي أن نورد هنا ثلاثة نماذج من تلك الشواهد:
يُقر المارشال شارل ديغول بأن اللغة الفرنسية هي أداة حرب بديلة للجيوش، حتى إنها، حسب قوله، ” صنعت لنا .. ما لم تصنعه الجيوش”. (عبد السلام المسدي، كتاب: “العرب والانتحار اللغوي”).
وفي سنة 1976 خطب وزير الثقافة الفرنسي أندريه مالرو فقال: “إن الفرنكوفونية ليست مجرد لغة، بل إنها حضارة قادرة على ضمان مستقبل العالم.” وكأنه يخير العالم بين الانخراط الكلي في الثقافة الفرنسية وقيمها، وبين خراب العالم.
وقد أكد الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران هذا التوجه العالمي، بأبعاده الثقافية والاقتصادية والسياسية، بقوله: “إن الفرنكفونية ليست هي اللغة الفرنسية فحسب. إذا لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرنكفوني سياسيا واقتصاديا وثقافيا يمثل إضافة فإننا نكون قد فشلنا في العمل الذي بدأناه منذ عدة سنوات” . (مؤتمر القمة الفرانكوفونية المنعقدة بفيرساي سنة 1986.)
أيديولوجية للتفوق
يرى العديد من المؤرخين، أن فرنسا ، خلال تاريخها، كانت نزاعة نحو التوسع المستمر، بدافع من “أيدولوجية التفوق”، حسب تعبير العالم اللساني الاجتماعي الفرنسي لويس دان كالفي: ففي القرن الخامس الميلادي قام الملك كلوفيس الأول Clovis Ier بِلَمّ شمل القبائل الجرمانية تحت لواء قبيلة الفرنجة، التي أصبحت تسمى : فرنسا.
وفي القرن الحادي عشر، كانت مدينة كلير مونت الفرنسية منطلقا لأول دعوة ل”تحرير” القدس من العرب، والتي أسست فيما بعد للحروب الصليبية، بقيادة البابا أوربان الثاني.
ومع أواخر القرن الثامن عشر قاد نابليون حملته شرقا نحو مصر، وهي التي مهدت للاستعمار الفرنسي الحديث.
وحين كان الجغرافي الفرنسي أونيزيم ريكلوس ، في القرن التاسع عشر، يتأمل مناطق نفوذ الامبراطورية الفرنسية، ابتكر لها مصطلحا لتوصيفها، فأسماها: “العالم الفرنكوفوني”. ودَوَّن ذلك في كتابه المنشور سنة 1886 تحت عنوان: “فرنسا والجزائر والمستعمرات”، حيث يقول: “سوف نقبل كل من توجهوا أو بدا أنهم قد توجهوا ليشاركونا لغتنا، باعتبارهم فرنكوفونيين.” فاعتُبر بذلك هو أبو هذا المصطلح.
عراب الفرنكوفونية بالمغرب
يعتبر الجنرال ليوطي، هو واضع أسس السياسة الفرنكوفونية بالمغرب، انطلاقا من موقعه مقيما عاما للاستعمار الفرنسي. فقد جاء في دورية تاريخية كان قد أصدرها بتاريخ 16 يونيو 1921 حول لغة التعليم بالمغرب قوله بالحرف الواحد: “من الناحية اللغوية، علينا أن نعمل مباشرة على الانتقال من البربرية إلى الفرنسية.. فليس علينا أن نُعلّم العربية للسكان الذين امتنعوا دائما عن تعلمها. إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج نطاق الإسلام.”
كما سعى خلال حكمه إلى فرنسة الجيش والإدارة والأعيان. فصنع اقتصادا فرنكوفونيا يرتكز في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء وفاس وسلا. وأحاط مؤسسة المخزن بأطر فرنسية في سبيل إنشاء “مخزن فرنكوفوني”.
وقد كان ظهير 16 ماي 1930″المنظم لسير العدالة في القبائل ذات الأعراف البربرية التي لا تتوفر على محاكم لتطبيق الشرع” ، و المسمى تغليطا ب”الظهير البربري”، محاولة فاشلة في هذا السياق. وقد تم توقيعه من قبل المقيم العام لوسيان سان، والصدر الأعظم محمد المقري عن السلطان محمد الخامس. وهو الظهير الذي سعى إلى اختراق النسيج الاقتصادي والإداري للمناطق الأمازيغية المغربية، بعدما استعصى على الاستعمار السيطرة الإدارية عليها.
الفرنكوفونية مقابل الاستقلال
مصطلح الفرنكوفونية لم يستعمل بعد أونيزيم ريكلوس، إلى أن جاء الجنرال شارل دوغول في خطابه سنة 1944، وليتردد صداه بعد ذلك في كتابات صديقه السنغالي ليوبولد سيدار سانغور ابتداء من سنة 1962، الذي كان يدير مجلة “فكر ” Esprit ” الفرنسيةـ، وهي المنبر التأسيسي الرسمي للمشروع الفرنكوفوني، وليكون سنده في ذلك حليفه السياسي الحبيب بورقيبة. هذا الاخير، الذي خاطب الرئيس الفرنسي دوغول بلهجة حادة، في سياق الاحتجاج على ضعف دعمه للمشروع الفرنكوفوني، بقوله:
” إذا استمرت فرنسا في مراعاة التحفظ نفسه، كي لا تبدو أنها تشجع، لا أدري أي نوع من الاستعمار، فليكن. ولكن لن يحدث شيء بعد ذلك على الإطلاق، وستطوى الصفحة نهائيا.” ذلك ما عبر عنه بالحرف خلال خطابه في جامعة لافال بكيبيك بتاريخ 24 سبتمبر 1966.
لا تنص اتفاقية إيكس ليبان صراحة، على فرض اللغة الفرنسية على المغرب المستقل. غير أن فرنسا، وحسب ما كشفته الخزانة الوطنية الفرنسية بعد سنة 2006، من خلال الأعمال التحضيرية لمفاوضات الاستقلال، تؤكد أنه تم استبعاد أسماء من الوفد المفاوض، معروفة بنزوعها الشديد نحو إلغاء اللغة الفرنسية من الحياة العامة بعد الاستقلال. كما أن مشاركين في تلك المفاوضات، ومن ضمنهم الدكتور إدريس الكتاني، يؤكد عبر مقابلة مصورة سنة 2008، على أنه كان واضحا أن فرنسا قد وضعت من بين الشروط القبْلية لاعترافها بالمغرب أن تظل اللغة الفرنسية لغة أساسية في التعليم والإعلام والإدارة.
الأذرع الأيديولوجية
ومع فجر استقلال المغرب، كونت فرنسا أول ذراع أيديولوجي للفرنكوفونية، وأسست “رابطة الشعوب الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية” . وقد كان المغرب في طليعة هذه الدول، حتى إنها قد عينت محمد الفاسي رئيسا لهذه الرابطة، وهو أول وزير تعليم بالمغرب بعد الاستقلال.
ثم تطورت الرابطة بعد ذلك، لتفرز ذراعا أيديولوجيا جديدا، هو “الوكالة الدولية للفرنكوفونية”، التي ضمت 53 دولة، وانضوت تحتها أكثر من 17 منظمة، وتعتبر يوم 20 مارس يوما عالميا للفرانكوفونية.
وحين صدر ميثاق الفرنكوفونية في نفس اليوم من سنة 1970، كان قد نص على الدور المنوط بهذه الوكالة، حيث تضمن ما يلي: ” مع مطلع القرن الواحد والعشرين، يعرف العالم تغيرات سياسية واقتصادية وتكنولوجية وثقافية. ولكي نبقى حاضرين وفاعلين، فعلى الفرنكوفونية أن تتكيف مع هذا التحول التاريخي.”
تعليم لا يزال تحت الحماية
قبل الاستقلال وبعده، ظل التعليم المغربي بكل أنواعه الأساسية، وفيا لعلاقته بالسياسة التعليمية الفرنسية، وإن بأشكال ومستويات مختلفة:
فعلى صعيد التعليم الخصوصي، وعلى الرغم من كل مراحل المد والجزر المتعلقة بالتعريب، فقد ظلت اللغة الفرنسية في المغرب، تعتبر عملة الولوج للمناصب المؤثرة. لذلك عمدت مؤسسات التعليم الخاص ، إلى التنافس في تقديم نفسها على أنها الأقدر على تزويد التلميذ بهذه العملة السحرية.
ومع استحضار أن التعليم الخاص، حسب التقرير الأخير لوزارة التعليم المغربية، لا يتجاوز نسبة 10 بالمائة، فإن التهميش المحقق يكون هو القدر المحتوم لأكثر من 90 بالمئة من أبناء المغاربة الممدرسين. وذلك ما يكرس الفشل المزدوج للتعليم بالمغرب.
أما على مستوى تعليم البعثة الفرنسية، وحسب التقرير السنوي المنشور لدى السفارة الفرنسية بالرباط سنة 2016 ، فإن شبكة المؤسسات التعليمية الفرنسية بالمغرب، تعتبر من أكبر الشبكات كثافة في العالم، متمثلة في 30 مؤسسة تعليمة، تهم مختلف المستويات، حيث سجل الدخول المدرسي لسنة 2015-2016 ما يزيد عن 30 ألف تلميذ، 18 ألف منهم مغاربة، فيما منحت وزارة التربية الوطنية الفرنسية مصادقتها، لسبع مؤسسات تعليمية مغربية خاصة. ويتركز معظمها في العاصمة الاقتصادية: الدار البيضاء. ومن المؤكد عمليا، أن شهادات التخرج لتعليم البعثة، تحظى حتى وطنيا بالأفضلية في انتقاء ملفات الترشيح للمؤسسات التعليمية العليا. وهو ما سبق أن أثار سجالات سياسية عديدة، لكن دون أثر يذكر.
وحينما نتحدث عن شبكة المؤسسات التعليمية الفرنسية، فنحن نتحدث عن تعليم موازي للتعليم الرسمي، والذي لا يكتفي بزيادة جرعة اللغة الفرنسية في المواد المدرسة، وإنما يعتمد الكتاب المدرسي الفرنسي، والبرنامج التعليمي الفرنسي بأهدافه ووسائله.كما يعتمد لائحة العطل الفرنسية بما تحمله من رمزيات غير وطنية، تعمل على ربط التلميذ سيكولوجيا بشكل عميق بالمناخ الثقافي لفرنسا.
وهنا يطرح بشدة إشكال القيم التربوية الملقنة لعدد لا يستهان به من التلاميذ المغاربة، الذين سيحظون بالأولية في احتلال المناصب المؤثرة بعد بضع سنين.
ودعما لهذا التوجه زار المغرب وزير التعليم الفرنسي، في فبراير 2014، للتوقيع بمعية نظيره رشيد بلمختار على اتفاقية جديدة لتعزيز التعاون في مجال التعليم بين المغرب وفرنسا، والتي تهدف إلى “خلق عشرات الشُّعب الدولية في الثانويات المغربية”، في أفق الوصول إلى 80 قسم في الثانويات المغربية.
خلاصة ذلك الارتهان، كان ولا يزال هو الفشل الذريع في مجال التعليم العمومي. تشهد على ذلك تقارير دولية، كان آخرها تقرير 2015 الصادر عن منظمة اليونسكو ، وضع المغرب ضمن خانة الدول العشرين الأكثر فشلا في مجال التعليم.
هذا من حيث الجودة، أما من حيث الكم، فإذا أردنا أن نقارن أنفسنا بالجارة الجزائر باعتبار تشابه المعطيات والظروف، فإننا نتوفر على 480 ألف طالب فقط، في مقابل مليون و300 ألف طالب بالجزائر. وهو ما يعني أنه بنفس عدد السكان فنحن متخلفين على الجزائر بنسبة الثلثين، وهي التي تخلصت من الفرنكوفونية منذ اليوم الأول لاستقلالها، كما أن أطرها المتخرجة من الثانوية أو الجامعة لا تجد أدنى مشكل في “متابعة دراستها في الجامعات العالمية”، تلك التعلة التي يسوق بها طروحاتهم متعصبو هذا الارتهان.
اقتصاد لم يتحرر من التحكم
حين قدمت فرنسا إلى المغرب جاءت مدججة بأرتال من شركات ومقاولات لا تحسن غير لغة واحدة.وقد تمكن الفرنسيون منذ ذلك الحين من الهيمنة على قطاعات اقتصادية تقليدية في مجال البترول والبناء والغذاء. وذلك بفضل استسهام العديد من المقاولات التقليدية الوطنية. فكسبت بذلك حماية البرجوازية المغربية النامية، كما كسبت استمرارها بعد الاستقلال كمقاولات اقتصادية ذات امتيازات خاصة.
تدريجيا، حلت البرجوازية الفرنكوفونية محل البرجوازية التقليدية. وبحكم تلك الشراكة المبكرة، أصبحت اللغة الاقتصادية لرجال الأعمال المغاربة اليوم هي اللغة الفرنسية. وهو ما يجعل المغاربة منزوين ضمن حدود السوق الفرنكوفونية، والتي تجاوزها اليوم حتى الفرنسيون أنفسهم. حيث انفتح رجال الأعمال الفرنسيون على الأسواق الأنغلوفونية والآسيوية والإسبانوفونية في القارة الأمريكية. في حين لا يزال نظراؤهم المغاربة منغلقين ضمن الحدود الموضوعة لهم.
بل حتى على صعيد التعاون الاقتصادي المغربي-العربي، يجد رجال الأعمال المغاربة أنفسهم مضطرين إلى استقدام خبراء أنجلوفونيين ليقدموا في المغرب عروضا اقتصادية للمستثمرين العرب. باعتبار أنهم – أي المغاربة- لا يتقنون العربية لغة اقتصادية مشتركة مع العالم العربي، ولا يشتركون معه حتى في ذات اللغة الأجنبية. وهو وضع لا يشجع المستثمرين العرب على المضي بعيدا.
ومن الجدير بالذكر، أن المغرب اقتصاديا يقع اليوم، تحت رحمة الصراع بين مشروعين اثنين: مشروع أمريكي ويتمثل في مشروع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. في مقابل مشروع فرنسي ويتمثل في مشروع البحر الأبيض المتوسط، والذي بدأه الرئيس السابق ساركوزي، حيث تحاول فرنسا بهذا المشروع أن تحافظ على نفس امتيازاتها التاريخية منذ الاستعمار، وتعمل على توسيعها. في حين تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى خلق فرص اقتصادية جديدة. وقد كرست ذلك بإقرار اتفاقية التبادل الحر مع المغرب.
فالامتيازات الاقتصادية التي تمنحها أمريكا للمغرب تتعلق بالأمن والاستخبارات الداخلية والخارجية، في مقابل الانخراط في مشروعها السياسي وخاصة ما يتعلق بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، وما تسميه “محاربة الإرهاب”. كما أن الامتيازات الاقتصادية التي تجنيها فرنسا من المغرب، هي مقابل تنازلات اقتصادية كبرى من جهة المغرب. دون أن نلغي من حسابنا ورقة الصحراء المغربية، والتي تحسن فرنسا استثمارها بدهاء منقطع النظير، لتأبيد تحكمها في الاقتصاد الوطني، بشكل لا يدعوها بأي شكل من الأشكال للإسهام الحقيقي والفعال في حل تلك القضية.
البرلمان وتعريب الحياة العامة
لتعريب الحياة العامة في البرلمان قصة لا تخلو من طرافة: فالموضوع ظل مطروحا منذ زمان تحت قبة البرلمان من قبل فرق الأغلبية والمعارضة على حد سواء. بل إن الحكومات المتعاقبة نفسها لا يختلف موقفها “العلني” عن موقف نواب الأمة. ليبقى السؤال مطروحا: من يقف وراء استمرار هذا الوضع؟ ومن يستفيد منه؟”.
كان عبد الخالق الطريس أول من تقدم بمقترح قانون حول: “تعريب الإدارة والحياة العامة”، وذلك سنة 1963. إلا أن الحكومة آنذاك، برئاسة السيد أحمد باحنيني كانت قد رفضته ل”اعتبارات شكلية”.
وإلى غاية سنة 1998 أعاد النائب الاستقلالي البرلماني سعد العلمي، طرح مقترح الزعيم عبد الخالق الطريس، لتعريب الحياة العامة، إلا أن حكومة التناوب رفضته، بعد ذلك أيضا، لنفس “الاعتبارات الشكلية”.
وفي سنة 2003، تقدم نواب من الفريق الاستقلالي بنفس المقترح، رفضه رئيس مجلس النواب، السيد عبد الواحد الراضي الاشتراكي، ل”اعتبارات شكلية” أيضا.
وأما سنة 2008، فتقدم الفريق الاستقلالي بنفس المقترح، الا أن الوزير الاستقلالي، المكلف بالعلاقة مع البرلمان، السيد سعد العلمي، والذي سبق له أن تقدم بنفس المقترح يوم كان نائبا، رفضه هو نفسه… ل”اعتبارات شكلية” أيضا.
فهل للعبة شد الحبل هاته من نهاية؟ بين من يقترح ومن يرفض تعريب الحياة العامة، في تناوب عجيب للأدوار والمواقع؟
مفارقة صارخة مريبة
من خلال الرجوع إلى الإحصائيات العالمية لسنة 2015، وفق كتاب “حقائق العالم” The World Factbook الصادر عن الاستخبارات الأمريكية، فإن نسبة عدد السكان المتحدثين باللغة الفرنسية، لا يتعدى 3.05% من عدد سكان العالم، وأن الإقبال على تعلمها هو في تراجع مستمر سيفضي إلى تدحرجها المستمر، حيث تحتل اليوم الرتبة التاسعة. بعد أن كانت منذ أقل من خمس سنوات تحتل الرتبة الثامنة، في أفق يؤهلها للخروج إلى الأبد من اللائحة العشرية للغات الأكثر انتشارا.
في مقابل ذلك نجد أن اللغة العربية تحتل الرتبة الرابعة، بعد أن كانت تحتل منذ خمس سنوات المرتبة الخامسة، في أفق قد يؤهلها لاحتلال الرتبة الثالثة بعد سنوات قليلة. كما أن مؤشر الإقبال على تعلمها هو في ازدياد مطرد، حيث يتحدث بها 6.6% من سكان العالم، وتعتبر لغة رسمية لأكثر من 27 دولة.
كان بالإمكان أن نتفهم اختيار المغرب المزمن للتوجه الفرنكوفوني، لو أن اللغة الفرنسية تفسح له واجهة اقتصادية وعلمية واسعة لا تتيحها له لغته الرسمية والوطنية. أما وأن الوضع غير ذلك، فإنه من حق الشعب المغربي أن يطالب بالجواب الواضح والصريح عن سر هذا الارتهان المريب.
ذلك أنه، باستحضار تقابل “لغة الحصر” و“لغة النشر”، والذي يقترحه اللساني السوسيولوجي لويس جان كالفي، فإننا نكون أمام مفارقة لغوية اجتماعية غريبة: شعب يمتلك لغة “نشر” وهي العربية، يتوسل للتواصل مع العالم عن طريق لغة “حصر”، وهي الفرنسية.
نموذج للمقاومة
مع أن اللغة العربية دستوريا هي اللغة الرسمية، وأن أقل من 10 بالمائة فقط من المغاربة يتكلمون اللغة الفرنسية، فإن معظم قطاعات الإدارة المغربية لا تزال مفرنسة. ولا تخرج عن هذا الطابع غير وزارات معدودة مثل الأوقاف والعدل والتعليم.
النقيب عبد الرحمن بن عمرو قرر خوض نوع من المقاومة اللغوية تجاه الإدارة المغربية. فهو يرى أن استخدام اللغة الفرنسية في المرفق العام يعد خرقا للدستور، فما كان منه إلا سجل دعاوى قضائية ضد جهات إدارية رفضت مراسلته باللغة العربية. ومن ضمن تلك الجهات، كانت الحكومة المغربية، وكذا إدارة الإذاعة والتلفزة المغربية. بعد بضع سنين، كسب قضية واحدة، فيما رفضت النيابة العامة بقية القضايا. رفض لم يثنه عن تكرار المحاولة. فلما أرسل له الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي رسالة باللغة الفرنسية، أرجع النقيب تلك المراسلة طالبا إدارة الصندوق بمراسلته باللغة العربية. وحينما رفضت تلك الإدارة طلبه، رفع ضدها دعوى قضائية بالمحكمة الإدارية بالرباط، والتي قضت في مواجهته بتعويض مادي، بالرغم من أن التعلة التي بنت عليها المحكمة قد نصت على أنه ليس على الإدارة أن تراسل المواطنين المغاربة باللغة العربية إلا إن ألحوا في ذلك الطلب، وهو أمر يخالف مدلول “الرسمية” للغة العربية.
تجربة بإمكانها أن تكون ملهمة لمن اختار خط المقاومة اللغوية.
فرنسا نموذج يحتذى
إذا استثنينا نزعة الهيمنة والشعور المَرَضي بالتفوق لفرنسا، نجد أنها تمثل نموذجا رائدا في استماتتها في الدفاع عن هويتها الثقافية، تستطيع بقية الدول أن تقتدي بها.
منذ فترة طويلة، أنجزت فرنسا مجموعة من الإجراءات التشريعية والعملية لحماية هويتها اللغوية وتحصينها من الذوبان في عاصفة العولمة الثقافية التي تقودها اليوم الولايات المتحدة، ومن تلك الإجراءات نجد:
– إصدار قانون فيلي كوتري: منذ سنة 1490 أقرت الحكومة الفرنسية قانون فيلي كوتري، ويقضي بتوقيف الاستعمال الرسمي للغات اللاتينية والإسبانية والإيطالية، بل حتى اللهجات الفرنسية مثل الكتالانية والباسكية والبروطانية.
– في سنة 1970 شكل رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جاك شابان دلماس لجنة لتصفية المصطلحات الدخيلة على اللغة الفرنسية. وقد عرفت بلجنة “المصطلحات”.
– في سنة 1976 أصدرت المحكمة الفرنسية قرارا بحظر استخدام كلمات إنجليزية معينة، ورتب عقوبات حبسية ومالية على المخالفين. كما أصدرت وزارة الدفاع الفرنسية قرارا بمنع استخدام مائتي كلمة إنجليزية بين الجنود الفرنسيين.
– عرض وزير الثقافة الفرنسي جاك توبون في سنة 1994 مشروع قانون صادق عليه البرلمان الفرنسي يقضي بحظر استخدام الكلمات أو التعابير غير الفرنسية في حال وجود بديل فرنسي لها بالفرنسية. بما يشمل كل المعاملات التجارية.
– في سنة 2013 حظرت الحكومة الفرنسية على الدوائر الرسمية التابعة لها استخدام مصطلح “هاشتاغ” hashtag، المستخدم في شبكة التواصل الاجتماعي “تويتر” للدلالة على الموضوعات الأكثر شعبية، واستبدالها بمصطلح “مودييز” Mot-Diese.
وحتى اعتبار فرنسا عضوا في الاتحاد الأوربي، لا يمنعها من التصدي بقوة للولايات المتحدة الأمريكية، حينما أرادت إقامة “اتفاقية التجارة والاستثمار” مع الاتحاد في يونيو 2013. حيث طالبت فرنسا بما سمته “الاستثناء” لكل ما يتعلق بمجالي الثقافة والسمعي البصري. واعتبرت الموضوع غير قابل للنقاش، وعللت موقفها بما سمته “اعتقاد” Conviction سياسيا وفلسفيا.
“المهم، أن نستعين على قضاء حوائجنا بالكتمان لأن هناك من لا يريد سياسة التعريب”. ذلك ما عبر عنه آخر وزير أول في المعمار الدستوري القادم، وهو عباس الفاسي، أمام منتخبي حزبه خلال شهر مارس من سنة 2010. وكأن الدعوة إلى “تعريب الحياة العامة” بضاعة مهربة، وكأن الجهات الواقفة ضده طابور خامس.
وباستحضار كل تلك المعطيات، نكون قد تجاوزنا سؤال:
“هل من مصلحة المغرب أن يظل فرنكوفونيا؟”
لنطرح سؤال: “كيف ينبغي أن يتخلص المغرب من هذا الظل الثقيل؟”.
وفي انتظار أن نصل إلى الإجابة بشكل فعلي، ما تزال ظلال الجنرال ليوطي جاثمة، على قلب المدينة، ممتطيا صهوة جواده العربي، ليدلنا، ربما، على أن هذا البلد، لم يزل فرنكوفونيا، ولو إلى إشعار آخر.
(*) إعلامي وكاتب وباحث مغربي في السيميائيات