كاينابريس – يونس مسكين(*)
في اليوم الذي كنا ننوي أن نتذكر فيه ضحايا في كارثة زلزال السنة الماضية، أتتنا كارثة جديدة.
وقبل أن نشرع في التساؤل حول مصير منكوبي ومشرّدي كارثة مرّ عليها حول كامل، رحنا نبحث عن ضحايا ومفقودي ومشرّدي كارثة فيضانات المغرب الشرقي.
بصرف النظر عن الأرقام والحصيلة والحيثيات، هناك أمر كريه ينتابنا في مثل هذه الوقائع. هناك قدر غير يسير من الازدراء تجاه الانسان المغربي يطفو فوق سطح نكباتنا.
استيقظنا صباح الأحد 08 شتنبر على أخبار وصور ومقاطع فيديو تخبرنا بانهيار عدة وبيوت وفقدان عدد من الأشخاص، لكننا لم نعترف بالكارثة سوى في نهاية اليوم.
لا داعي للتحجج هنا بضرورة الوقوف على الحقائق في الميدان والتأكد من صحتها وتقديم وصف دقيق لها، لأننا في العام الماضي كنا أمام هزة مزلزلة شعرنا بها من أقصى المغرب إلى أدناه، لكننا انتظرنا أكثر من ساعتين قبل أن نعلن رسميا وقوع الكارثة.
حتى ونحن نعترف بالكوارث ونزعم محاولة تدبيرها، يصبح محور النقاش هو سلوك السلطة وقراراتها وفعلها. بمجرد إعلان الحصيلة المؤقتة الأولى للكارثة، مساء الأحد، لم يكن هناك من نقاش في الإذاعات والمنتديات سوى عن التعبئة “الشاملة” والتدخّل “الفعال” والحضور “الميداني” للمسؤولين.
ما زلنا لم نعرف بعد حقيقة الوضع على الأرض ولا مصير المختفين ولا أعداد المنكوبين الذين قد لا نعرف حتى موقعهم فوق الخريطة، بينما السلطة “بارزة” لتخبرنا أنها هنا.
ما يؤلم ويضرّ ويشرّد المغاربة هو التقصير الأزلي في احتضان جميع أبناء وبنات المغرب، وتمكينهم من نصيب منصف ومتكافئ من خيرات بلادهم
حتى استحضارنا لكارثة السنة الماضية، بدا لي وأنا أتنقل بين المحطات الإعلامية العمومية والخاصة، أننا نحاول تمثّلها كأي تجربة رومانسية مرّت بنا.
هي ذكرى كارثة، لكن حديثنا كان عن حالة التضامن الوطني الواسع، والمبادرات الجبارة، والإجراءات الخلاقة. ربورتاجات عن البيوت الذي انطلق بناؤها، والمنكوبين الذين حصلوا على 2500 درهم، والجمعيات التي “جادت” بكرمها… ولا شيء، تقريبا، عمن يعيشون في الخيام، والأطفال الذين فصلوا عن أسرهم لإلحاقهم بمدارس بعيدة، ومن يكابدون اليتم أو العجز عن تحويل المساعدة المالية الهزيلة إلى سقف وجدار يقي حرّ الصيف وبرد الشتاء.
ضحايا الزلزال كما ضحايا فيضانات هذا الأسبوع، هم ضحايانا جميعا، السماء بريئة رغم الفيضان والأرض أكثر براءة رغم الزلزال. ما يؤلم ويضرّ ويشرّد المغاربة هو التقصير الأزلي في احتضان جميع أبناء وبنات المغرب، وتمكينهم من نصيب منصف ومتكافئ من خيرات بلادهم.
وإذا كانت هناك “نعمة” في طيات الكوارث التي تلمّ بنا بين الفينة والأخرى، فهي تذكيرنا بوجود أركان قصية من بلادنا، رغم أنها تتوسّط ترابنا، إلا أن بعضنا يسارع إلى فتح تطبيقات الخرائط الرقمية لتحديد موقعها.
طاطا التي ذكّرتنا سيول هذه الأيام بأنها جزء منا، هي عبارة عن إقليم شاسع، يمتدّ على طول الواجهة الشرقية لجهة سوس ماسة، أي أنها منطقة حدودية مع جارتنا الجزائر.
مساحة الإقليم تناهز 26 ألف كيلومتر مربّع، أي قرابة نصف مساحة الجهة التي تضم ست عمالات وأقاليم، لكنها بمعطيات الدولة الخاصة بالتنمية، أشبه بالأرض المنسية.
فوفقا للنشرة الإحصائية الجهوية الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط عام 2020، يسجّل إقليم طاطا أعلى نسبة للهشاشة في الجهة، بما يقارب ال27 في المئة، وأعلى نسبة فقر تفوق 17 في المئة، مقابل 7 و2 في المئة تباعا في عمالة أكادير، عاصمة الجهة.
وفي هذا الإقليم الشاسع الممتد كمنطقة عازلة على طول الحدود الفاصلة بين جهة سوس والجزائر، لا وجود لبنيات صحية أو تعليمية أو تكوينية.
النشرة الإحصائية الرسمية بالكاد تعثر علي بضع بنيات عمومية. ويمكننا أن نتخيل مستوى وطبيعة الخدمة العمومية في هذا الركن الخالي من البلاد، بينما تعتبر البنيات الخدماتية الخاصة أشبه بالخيال.. لا مدارس ولا مصحات ولا معاهد تكوين تابعة للقطاع الخاص.
ثلاثة مراكز صحية حضرية وثمانية قروية مع مستشفى عمومي يتيم، وطاقة استيعابية إجمالية لا تتجاوز 58 سريرا وطبيبان للأسنان في جزء يمثل قرابة 4 في المئة من مجموع مساحة المغرب.
يمكننا تصوّر حالة مواطن مغربي مريض في هذا الإقليم، خلال الظروف العادية، فبالأحرى في فترات الكوارث.
وإذا أردنا أن نتخيّل مستوى التنمية والقدرة الشرائية والدورة الاقتصادية للمنطقة، لنتأمل فقط رقم تسع وكالات بنكية فوق قرابة 26 ألف كيلومتر مربع، ست منها تابعة للبريد بنك، أي المؤسسة الخاصة بالفقراء والبسطاء.
وفي مقابل 133 مشروع استثماري بقيمة إجمالية تناهز 6 ملايير ونصف مليار درهم سجلت في عمالة أكادير عام 2020، لم تحصل طاطا سوى على أربعة مشاريع بقيمة 16 مليون درهم.
الوثيقة الإحصائية الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط لم تجد أية معطيات يمكن الإدلاء بها بخصوص معدل النشاط والبطالة في هذا الإقليم، بل لم تجد حتى محطة لقياس حجم التساقطات المطرية.
هذه هي الكارثة الحقيقية التي تصيب جزءا من مغرب كنا نظن أن الاستعمار وحده من صنّفه ضمن خانة المغرب غير النافع. مع العلم أن المعطيات الرسمية، التي تتضمنها وثيقة النشرة الإحصائية للمندوبية السامية للتخطيط، تتحدث عن إنتاج إقليم طاطا لأكثر من 50 ألف طن من النحاس سنة 2020، وأكثر من 13 ألف و500 طن من حجر الجمشت الكريم، و3670 طن من الباريتين…
كل هذه الخيرات، وغيرها كثير دون شك، يستخرج من أرض إقليم طاطا ويرحل بعيدا كما يرحل الكثير من أبنائه، كما يدل على ذلك التناقص الديمغرافي المسجل، دون أن تحقق الساكنة المحلية أي عائد تنموي. أي أن جل قدرات ومؤهلات المنطقة تذهب إلى غير رجعة، وحدها الكوارث تزور الإقليم بين الفينة والأخرى.
(*) صحفي وباحث مغربي