نداء الحاضر بين الجزائر والمغرب

حسن أوريد6 أكتوبر 2024
حسن أوريد

كاينابريس – حسن أوريد(*)

لا أدري مدى تأثير دعوات يطلقها مثقفون جزائريون ومغاربة، بين حين وآخر، على مجريات الأحداث من أجل التذكير بالمشترك بين البلدين. بنية النظامين وخياراتهما تجعلهما أصمين لكل نداء للحكمة والتعقل، ومنحى التطورات الدولية يدفعهما للاصطفاف في محورين متواجهين، ويعيد لربما شبح الحرب الباردة، ويجعل المنطقة ساحة لتضارب الكبار، وليس لأصحابها من الأمر في شيء. ورغم ذلك، ينبغي عدم الاستهانة بالرسائل تحت الماء، التي تغور في أعماق بلاد المغرب، والتي يحملها من يُنظر إليهم كهامشيين، أو حالمين أو خارجين عن السرب.. هذا في أحسن الأحوال، أو مأجورين وخونة، أو في خدمة أجندات أجنبية، في غالب الأحوال، بل رميهم بتهمة الإرهاب.

استوقفني مقال لنور الدين ثنيو في «القدس العربي» ليذكّر بما هو معلوم، من الوشائج العميقة لبلاد المغرب، وأضحى مطمورا، بسبب الجفاء، وفي تشخيص لأسباب الوهن. تشخيص قد يبدو مزعجا، ولكنه لا يخلو من وجهتي من وجاهة، إذ يقول «عانت الجزائر وما تزال من قصور داخلي، لازمها منذ الاستقلال عام 1962، ونقصد انطلاقها الخاطئ بدون إطار المغرب العربي (أسميه بلاد المغرب، لأن التعبير قديم خلاف التعبير الذي يستعمله وهو المغرب العربي، ويثير ردود فعل الاتجاهات الأمازيغية) الذي تحتاج إليه كصيغة لكيانها الجديد». واستوقفني نداء من لدن مثقفين جزائريين ومغاربة بعنوان «نداء المستقبل» يدعون فيه لفتح الحدود بين البلدين، والحد من خطاب الكراهية وفتح قنوات الحوار بين البلدين.

هل يمكن لهذه المبادرات أن تؤثر في سير الأحداث؟ أشك في ذلك، ولكن من المهم الوقوف عليها، لأن من يحملون ضميرا يرفضون «حتمية» الاصطدام. والمهم هو أن هناك أصواتا لا تسير في الاتجاه العام، وتأبى الاتجاه السائد القائم على التصادم والتنافر. في كل علاقات مواجهة، لحظات انقشاع وهدنة، حتى في الحروب يخرس صوت المدافع، لبرهة، ليتيح للمتحاربين جمع قتلاهم، ودفن موتاهم، والسماح بالعمليات الإنسانية، حتى في الحروب الصليبية. وقد تتحول تلك البرهة من وقف لإطلاق النار إلى هدنة، ليس المغرب والجزائر في حرب مكشوفة، ولكنهما في حروب إعلامية وأيديولوجية. لا أجادل أصحاب النداء دعوتهم التي تنظر للمستقبل، وأشاطر تحليل نور الدين ثنيو في التذكير بالماضي، من وشائج عميقة بين شعوب بلاد المغرب، وأمل الوحدة منذ نجمة شمال افريقيا مع مصالي الحاج، سنة 1926 وأرضية الصومام سنة 1956، واشتراك المغاربة والتونسيين في حرب تحرير الجزائر، وحالة التعثر الذي تعرفه البلدان الثلاثة، تونس والجزائر والمغرب، بأشكال مختلفة، في التنمية والتحديث والدمقرطة. أكتفي بنداء للحاضر، وجزء منه متضمن في دعوة نداء المستقبل، وفي مقال نور الدين ثنيو، من أجل المطالبة بشيء بسيط وهو، وقف التراشق الإعلامي. بلغ التراشق الإعلامي حدا من الإسفاف والدناءة لا يوفر رموز البلدين، ويهزأ من مقومات كل بلد، ويتعرض لأعراض الشعبين، ويشكك في وجود الآخر، لا يرعى إلاّ ولا ذِمة، مع إجراءات تسب المستقبل، حسب التعبير الفرنسي المستعمل في الخطاب السياسي، ومنها الإجراء الأخير الذي حكم على مزارعين من فكيك بالرحيل من أرض حدودية، كان لهم فيها حق انتفاع، قبل أن تكون هناك الحدود وقبل أن يجري ترسيمها.

المغاربة والجزائريون ليسوا ألمانا وفرنسيين، بل يشتركون في الأصول، إذ غالبيتهم أمازيغ تعربوا، ويشتركون في ما يعبر عن هذا المصدر المشترك من خلال بنية لسانهم ونطقهم، الذي يحمل لكنة أمازيغية، وهم يتكلمون العربية، ويشتركون في ولائهم لرموز ثقافية من المذهب المالكي، ويأخذ المغاربة عن الإمام سحنون، من مواليد تونس، والونشريسي، من مواليد الجزائر، وهما من أئمة المذهب المالكي، بلا غضاضة أو عقدة، مثلما يأخذ التوانسة والجزائريون عن القاضي عياض دفين مراكش، وتتلى قصائد سيدي بومدين الغوث، دفين العُبّاد قرب تلمسان، في كل مناسبة دينية في ربوع المغرب، وتتخلل البلدين الزوايا ذاتها، التي تجد أتباعا لها هنا وهناك، ويضمان زهاء تسعين في المئة من الناطقين بالأمازيغية، ويشتركان في تاريخ متداخل، ومن التافه أن تُرد رموز تلك الأصول لبلد، وأن نحكم بقوالب اليوم على وقائع الأمس. ويختلفون كذلك، كما تختلف جهات بلد.. ويختلفون بالنظر إلى تجارب تاريخية، في سياق تحول كبير عرفته بلاد المغرب، مع تحرش الصليبيين وهجماتهم، فانكمشت وحدته، ومما صاغ واقعا سياسيا مضطربا ما يزال يحمل آثار اضطرابه، لكن تلك الاختلافات لا تمس القوام، ولذلك انتقل مغاربة إلى الجزائر عبر التاريخ، فرادى وجماعات، وعاشوا فيها، وانتقل جزائريون إلى المغرب، أفرادا وأسرا وقبائل، وتمغربوا، إن صح هذا التعبير. ويكفي أن نُذكّر أن أول رئيس للجزائر المستقلة المرحوم أحمد بن بلة تعود أصوله لقبيلة سيدي رحال قرب مراكش، وأول وزير للقصور الملكية والتشريفات، والشخصية الثانية في الحكومة كان المرحوم لفقيه المعمري، من مواليد قرية تاوريرت آيت ميمون بالقبايل. وأخذ المغاربة عن الجزائريين، مثلما أخذ الجزائريون عن المغاربة، في ما أضحى مشتركا ثقافيا.

كان بعض المشارقة يرون أننا، في بلاد المغرب، لا نزِلّ إلى حد المساس بالأعراض في النزاع، وهم يقارنون بما كانت تعرفه بعض بلدان المشرق من تراشق لفترة، لكننا في الآونة الأخيرة أصبحنا من يحسد المشارقة على عدم انزلاقهم في مس الأعراض والإسفاف أثناء النزاعات. كل بلد حر في خياراته، لما تتيحه له السيادة، وكل بلد له استقلالية في قرارته، ولا يمكن أن تجري عليه وصاية في شؤونه الداخلية. ليس على المغرب أن يملي على الجزائر ما ينبغي، وليس على الجزائر أن تفعل في ما يخص الشؤون الداخلية للمغرب. وليس لبلد أن يرمي مشاكله الداخلية على الطرف الآخر. نعم نحتاج إلى هدنة إعلامية، يمكنها لربما أن تتيح التفكير بروية، وطرح القضايا الإنسانية، كمرحلة ثانية. ونحتاج كذلك إلى عدم تجريم من يغنون خارج السرب، إذ يعبرون عن المشترك، ويرفضون حتمية الاصطدام. ومن العبث الاعتقاد أن كل بلد «قطع الواد ونشفو رجليه» كما يقول المثل المغاربي. فما تزال تدور. وما تزال اللوحات التكتونية الغائرة في وجدان بلاد المغرب تتحرك، وقد تفاجئ من بقوا في بروفة الاستعمار.


(*) روائي مغربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل