محرقة في جباليا

يونس مسكين15 أكتوبر 2024
يونس مسكين

كاينابريس – يونس مسكين(*)

تبهجنا أخبار الضربات التي توجهها المقاومة لقوات الاحتلال الإسرائيلي، سواء شمال فلسطين أو جنوبها. وتشعرنا هذه الضربات ببقية عزة وكرامة وكبرياء، لأننا نعتبر المستهدفين بالعدوان الذي تقوده إسرائيل امتدادا لنا وجزءا منا؛ لكننا قلّما ننتبه إلى أخبار المجازر وصور الأشلاء وبقايا الأطفال والنساء والجثث المتفحّمة.

كما نجد في ضربات المقاومتين الفلسطينية واللبنانية بعض العزاء، علينا أن ننظر إلى صور وأخبار الخراب ودمار والدماء، ونتحلّى بالشجاعة الكافية كي يتسلّل منا بعض من خجل، لأن هؤلاء أيضا منا وامتداد لنا، إن لم يكن في عرق أو دين أو ملة ففي إنسانية.

ما يحدث اليوم في مخيم جباليا المحاصر شمال غزة، ليس مجرد عمل حربي آخر من سلسلة الاعتداءات المستمرة على الشعب الفلسطيني، بل هو جريمة تهتز لها ضمائر البشر، وتنعكس على مستقبل الإنسانية بأسرها.

إننا أمام واقعة ليست فقط إحراقًا لأجساد اللاجئين في خيامهم، بل هي أيضًا إحراقٌ لما تبقى من روح الضمير الإنساني في عصر ادعى التقدم والرقي.

هي الواقعة العسكرية الأولى في التاريخ، التي يخوض فيها جيش مدجّج بأطنان القنابل وآلاف الصواريخ، حربا ضد مجموعة من نساء وأطفال ورجال جوعى وعرايا وخائفين. حرب عنوانها سلّم بيتك أو مت تحت ركامه.

إنها ليست حربًا، بل مجزرة صامتة. وحتى إذا افترضنا أن الحرب حالة طبيعية بين الدول، فإنها تكون محكومةً بقوانين وأخلاقيات دولية. أما ما يحدث في جباليا، فليس حربًا بل إبادة.

إسرائيل، التي تمارس سياسة الحصار والتجويع والقتل الممنهج، لا تكتفي بإطلاق الرصاص والقذائف على الأبرياء، بل تصرّ على استخدام النار.. النار التي تحرق الجسد وتشوه الروح قبل أن تُسكت الأنفاس. هل قدر هؤلاء أن يموتوا في النار كما عاشوا في العراء؟

ما الخطر الذي يشكله هؤلاء الذين يعيشون تحت الخيام، بلا مأوى ولا ملجأ؟ ما الخطر الذي يمثلونه على دولة تملك أقوى جيش في المنطقة؟ كيف يمكن أن يبرر أحد، أيًا كانت مرجعياته الفكرية أو السياسية، حرق البشر في خيامهم؟ اللاجئون في جباليا، كما في غيرها من المخيمات، ليسوا سوى ضحايا قرارات سياسية دولية خذلتهم منذ عقود.

لطالما حاولت إسرائيل أن تبرر أعمالها الحربية بأنها تأتي في إطار الدفاع عن النفس. لكن ماذا نسمي قتل الأبرياء في مخيمات اللاجئين؟ أهو دفاع عن النفس أم قتل متعمد يستهدف إحداث أكبر قدر من الخسائر في الأرواح البشرية؟ إن الحديث عن “الحرب العادلة” في هذا السياق هو هراء فكري، ولا يمكن بأي منطق أو ضمير أن يُبرر إحراق البشر أحياءً في أماكن يُفترض أنها ملاذات لهم بعد أن هُجروا من ديارهم.

هذا الاستخدام الممنهج للنار كأداة تدمير يحمل في طياته دلالات رمزية عميقة. إسرائيل لا تحرق الأجساد فحسب، بل تحرق أيضًا فكرة الشعب الفلسطيني وحقه في الوجود. إنها نار الاستعمار الحديث، التي لا تكتفي بالقتل الجسدي، بل تسعى إلى إلغاء الآخر وتدمير ذاكرته وثقافته وإنسانيته وإحالته إلى رماد.

سيذكر التاريخ أن دولاً عربية وقفت متفرجة بينما أُحرقت غزة ودُمرت جباليا. سيكتب أن حكومات عربية اختارت الصمت في وجه الإبادة الجماعية

الأهم من سؤال “ماذا يحدث في جباليا؟” هو “أين يقف العالم من هذا؟” أين تلك المؤسسات الدولية التي تتغنى بالدفاع عن حقوق الإنسان؟ أين تلك الدول التي تتشدق بشعارات الديمقراطية والحرية والعدالة؟ الصمت المطبق الذي يواجه به العالم هذه المجزرة ليس إلا مشاركة في الجريمة. إن الصمت في وجه الظلم هو تواطؤ غير مباشر مع الجاني، وتأكيد على أن النظام الدولي بات معطلاً عندما يتعلق الأمر بالشعوب المستضعفة.

ما يحدث في جباليا هو حلقة من سلسلة طويلة من المآسي التي ارتبطت بالقضية الفلسطينية منذ عقود. إن إحراق اللاجئين في خيامهم ليس حادثًا استثنائيًا، بل هو نتاج طبيعي لاستراتيجية استعمارية تهدف إلى تهجير الفلسطينيين وتدمير روح المقاومة لديهم. هذه الممارسات ليست إلا استمرارًا لسياسة الأرض المحروقة التي اعتمدتها إسرائيل منذ نشأتها، والتي تهدف إلى فرض واقع جديد بالقوة على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.

لا يمكن الحديث عن هذه الكارثة دون التطرق إلى الدور المخجل الذي تلعبه الدول العربية، أو بالأحرى الدور الذي لا تلعبه. إن الصمت العربي أمام ما يحدث في غزة عمومًا، وجباليا على وجه الخصوص، ليس مجرد موقف سلبي، بل هو خيانة صريحة لقضية كان من المفترض أن تكون مقدسة في الوجدان العربي، قضية تمثل صلب النضال ضد الظلم والاستبداد.

في وقت كانت فيه الدول العربية تستطيع أن تتحرك، ولو ببيانات شرفية، اختارت أن تغلق أفواهها، متجاهلة معاناة الملايين في قطاع غزة. أين تلك الأناشيد التي تغنت طويلاً بفلسطين وقضيتها؟ أين تلك التصريحات النارية التي كانت تُصدر في كل قمة عربية؟

يبدو أن عروبة الحاضر باتت متحجرة، وأصبحت المصالح السياسية والاقتصادية تتفوق على مبادئ التضامن الإنساني والديني. إن ما تفعله بعض الدول العربية اليوم من تواطؤ أو سكوت هو جريمة لا تقل وحشية عن تلك التي ترتكبها إسرائيل.

نعم، غزة تُحاصر من كل جانب، ليس فقط من إسرائيل، ولكن من الإخوة الذين اختاروا أن يغضوا الطرف عن مأساة عمرها عقود. كيف يمكن للعرب أن يتجاهلوا مدينة يُحكم على أهلها بالموت البطيء، بلا ماء، بلا كهرباء، بلا أمل؟ أليست غزة جزءًا من العالم العربي؟ كيف يُترك شعبها يصارع الفقر والجوع بينما تنعم بعض الدول بموارد لا حدود لها؟

سيذكر التاريخ أن دولاً عربية وقفت متفرجة بينما أُحرقت غزة ودُمرت جباليا. سيكتب أن حكومات عربية اختارت الصمت في وجه الإبادة الجماعية، وأنها لم تتدخل إلا حين فُرضت عليها ضغوط دولية أو حينما خشيت على مصالحها.
التاريخ لن يرحم الذين فضلوا الصمت على القيام بواجبهم الأخلاقي والإنساني.


(*) صحفي وباحث مغربي

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل