كم غزّة أخرى في رأس نتنياهو؟

وائل قنديل18 أكتوبر 2024
وائل قنديل

كاينابريس – وائل قنديل(*)

في افتتاحيّةٍ حملت توقيع هيئة التحرير فيها، كشفت صحيفة هآرتس الصهيونيّة عن الهدف الأساس الذي يسعى بنيامين نتنياهو واليمين الصهيوني المتطرّف لتحقيقه في قطاع غزّة، فتقول، بمناسبة مرور عام على العدوان الإسرائيلي، إنّ وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، ما زالا يتمسّكان بمهمتهما بشأنِ استغلال ما يعتبرانه فرصةً تاريخيّةً حدثت للشعب اليهودي في 7 أكتوبر (2023)، بغرض احتلال غزّة وإقامة مستوطناتٍ يهوديّةٍ، الأمر الذي يحدّد مواقفهما، بما في ذلك استعدادهما للتخلّي عن المخطوفين والتضحية بهم، وأنّهما يجدان أذناً صاغية لرغبتهما في احتلال غزّة لدى رئيس الحكومة نتنياهو.

يفسّر هذا حالة السعار التي تنتاب جيش الاحتلال هذه الأيّام في ممارسةِ كلِّ صور الإبادة والتطهير العرقي في جباليا ومناطق النزوح الفلسطيني داخل القطاع المدمّر، ليصبح العنوان الأبرز لهذه الجولة: الحرب على الإنسان الفلسطيني ومحو وجوده داخل القطاع، على نحوٍ مطابقٍ تمامًا لممارساتِ عصابات الصهاينة الأوائل، التي ألقت بها أوروبا والقوى الاستعمارية لإلغاء فلسطين وإنشاء الكيان الصهيوني.

بنظر سموتريتش وبن غفير، كلُّ مدينةٍ عربيّةٍ هي غزّة محتملة، بل مؤكّدة وفق عقيدة وزير المالية الصهيوني، التي هي عقيدة نتنياهو نفسه، والتي لم تعدْ مخبّأة تحت أقنعةِ التطبيع والسلام الزائف، بل صارت جدولَ أعمالٍ معلنًا، ويجري تنفيذه على الأرض، وقد تحدّث عنه سموتريتش في وثائقي القناة الفرنسية arte الذي أذيع قبل شهر، وحدّد فيه ملامح إسرائيل الكبرى، تلك التي تأخذ عنوانًا آخر مُخفّفًا عند بنيامين نتنياهو فيسميها “إعادة ترتيب الشرق الأوسط” كما تريده إسرائيل بالطبع. وحين سألت المحطّة الفرنسية الوزير الصهيوني النافذ عن تصوره لشكل “الدولة”، أجاب بأنّها دولة يهودية تُدار وفق قيم الشعب اليهودي، ثم سئل عن حدودها، هل سيادة إسرائيل من البحر إلى نهر الأردن فقط؟ أم أنّها ستحتل الضفّة الأخرى من نهر الأردن؟ فيجيب سموتريتش بابتسامةِ الواثق “شيئًاً فشيئاً بالنسبة لكبار حكمائنا الدينيين قدر القدس أن تمتد إلى دمشق”.

هذا عن العاصمة، كما يحلم بها الصهيوني، أمّا عن الدولة وكما أظهر وثائقي القناة الفرنسية، فإنّها تشمل الأراضي الفلسطينية، وأيضًا أراض في الأردن وسورية ولبنان والعراق ومصر، وحتى في السعودية.

هذا هو المشروع الصهيوني، أو الشرق الأوسط الإسرائيلي، بمنتهى الوضوح، والذي تبدو كلّ الأطراف وكأنّها مُتعايشة معه، باستثناء هؤلاء البواسل الصامدين بمواجهة العدوان في فلسطين ولبنان والعراق، والذين يمكن اعتبارهم في هذه الحالة، بأنّهم يحاربون دفاعًا عن شرفِ كلِّ مدينةٍ عربيّةٍ، وكلِّ مواطنٍ عربي، لكنّهم بنظر الأنظمة التي تربط بقاءها باستمرار الاحتلال، خارجون على الإجماعِ، وخوارج عصر رديء، ورأس حربةٍ لمشروعٍ إيراني، وأنّ تمسّكهم بمبدأ مقاومة العدو هو السبب في المذابح بحقِّ شعوبهم، إلى آخر هذا العواء الإعلامي والسياسي المُنبعث من عواصم ضجّت بتاريخها وجغرافيّتها وتتطلّع، باشتياق، إلى الانتقالِ لشرقٍ أوسط يريده البيت الأبيض ونتنياهو.

على أنّ أسوأ أشكال العواء الاستسلامي هو ذلك الذي يلتحف بفقه التصهين، على نحو ما نادت الدعوة السلفية في مصر على الجماهير  لمناقشة “مستقبل المنطقة بين المشروع الصهيوني والمشروع الشيعي” مع الوضع في الاعتبار أنّ هذه “الدعوة السلفية” هي بالأساس جزء من المنظومة الأمنيّة التي تُخرجها السلطة من مخازنها في توقيتاتٍ بعينها، وتُطلقها على الثوراتِ والتظاهراتِ والاحتجاجاتِ الشعبيّة، فتكون سببًا في تخويف الناس من الثوراتِ، ومن التغيير، ومن التوق إلى الحريّة، وها هي الآن تُستدعى لاستهداف القطاعات الشعبيّة المتعاطفة مع مشروع المقاومة، والذي يتم وصمه، أولًا، بأنّه مؤامرة شيعية، وثانيًا، مساواته بالمشروع الصهيوني.

 في وسط هذا الطوفان من تمدّد المشروع الصهيوني لابتلاع المنطقة، واتساع نطاق عمليات صهينة الوعي الجماهيري، يصبح لوم المقاومة على مقاومتها، وتحميلها المسؤولية عن دماء الشهداء وعذاباتِ النزوح، عملًا غير أخلاقي وغير عادل، ولا يمكن وصفه إلا بأنّه نوع من احتقار الذات.

لأنّ الوضع  باختصار هو كالتالي: أولا: عدو يمارس بكلِّ وضاعةٍ طوال أربعة عقود من وهم السلام عملية إزالة شعبٍ من الوجود، في ظلِّ عجزٍ متواطئ من أشقاء هذا الشعب، ومن السلطة التي اختارها وفرضها الاحتلال على هذا الشعب حتى صار سلاحها موجّهًا ضدّ من يقاوم هذا الاحتلال.

ثانياً: قرّر هذا الشعب أن يقاوم الفناء، فخرج من بين صفوفه رجال اختاروا أن يتصدّوا لسفالة هذا العدو بالسلاح دفاعًا عن شعبهم وأرضهم، في الوقت الذي التزم فيه الجميع الصمت والفرجة.

والحال كذلك، هل المطلوب منّا أن ندين هؤلاء الرجال ونستنكر بطولاتهم وتضحياتهم ونسخر منها، ونحمّلهم المسؤولية عن كلِّ ما ارتكبه العدو من جرائم وفظائع؟ أم نشدّ من أزرهم، وندعمهم بكلِّ ما نستطيع، كلّ على قدر طاقته؟

وهل من الأخلاق والكرامة أن نطالبهم بالاستسلام والخضوع للاحتلال وعدم تكرار المحاولة لأنّ العدو أقوى؟ وما الفرق هنا بين مهاجمة المقاومة واستنكار محاولاتها البطولية، وبين فتوى رأس الدعوة السلفيّة في مصر، ياسر برهامي، بترك الزوجة لمغتصبها القوي المسلّح يفعل بها ما يشاء بحجّة الحفاظ على حياة الزوج وباقي أفراد العائلة في ظلِّ اختلال موازين القوّة؟

 يبقى أنّ لوم الضحايا لا يليق إلا بالجبناء عديمي الكرامة، والأبشع منه أن يأتي هذا اللوم من ضحايا سابقين، فكن إنسانًا ووفّر غضبك للمعتدي والمتواطئين معه بدلًا من الهجوم الوقح على المقاومة وداعميها، ذلك أنّه لا يسعى للوقيعة بين شعب ومقاومته إلا شخص موتور أو مأجور… أو برهامي.


(*) صحافي وكاتب مصري

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل