الشهيد هو من سطّر بدمائه الزاكية أروع معاني التضحية والفداء، ليرتقي إلى مرتبة عالية عند الخالق تبارك وتعالى، فهو لم يفقد الحياة، بل اِنتقل إلى حياة أبدية ملؤها النعيم والرضا.
والشـهيد هو رمز للصمود والعِزة، وقد اصطفاه الله ليكون من الأحياء الذين يرزقون في دار الخلود. قال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169- 170].
فأيّ نعيم بعد هذا النعيم، أحياء وليسوا أمواتاً، يرزقون ورزقهم من الله، ومن ثمّ فهم فرحون بما أعطاهم الله، ويستبشرون بإخوانهم القادمين عليهم وذلك لحبهم أن ينزلوا هذه المنزلة التي أنزلهم الله، فلا حزن بل استبشار وفضل ونعيم، كيف وهي جنة الخلد، التي هي دار الله، وهم ضيوفه، ليجدوا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات: “إن أرواح الشهداء كما جاء في صحيح مسلم في حواصل طيور خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك فقال: ماذا تبغون؟ فقالوا يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى، لما يرون من ثواب الشهادة، فيقول الرب جل جلاله: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون” (تفسير ابن كثير: م: 1، ص: 87).
لقد اقتضت سنة الله أن يصطفي من عباده من يشاء، فيرفع درجاتهم ويعلي من شأنهم، ويمدهم بعطاياه، ولاشك أن مقام الشهادة من أعلى مقامات الاصطفاء والإجتباء التي يمتن بها على من يشاء من عباده، قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، ونعمَ الصحبة صحبة الذين ذكرهم الله تعالى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في منازل الفردوس الأعلى في جنات النعيم. والشهيد هو الذي قُتل باذلاً دمه ونفسه في سبيل الله ومن أجل أن يعوضه الله بهذه الحياة الفانية حياة أبدية لا نهاية لها، ويكون ذلك في البرزخ أي قبل القيامة وفي الجنة بعد الحساب، وقد اشترى الله من المؤمنين نفوسهم لنفاستها لديه، إحساناً منه وفضلاً، وكتب ذلك العقد الكريم في كتابه العظيم، فقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111]، فهذه المكانة للشهداء خاصة (فضل الشهادة ومنزلة الشهيد، رسلان، ص: 9).
وكما عظّم الله مقام الشهداء وأظهر ثوابهم في القرآن الكريم، فقد كرّمهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه ويرته، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يغسل الشهداء، حيث قال في شهداء أحد: “زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك” (النسائي: 1975).
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري قتل يوم أحد شهيداً، فقال جابر كما روى الإمام البخاري: “لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تبكه –أو ما تبكيه– ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع” (البخاري: 3771).
والشهداء لا يفتنون في قبورهم، فعن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: “يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة”، وأخبر المقدام بن معد يكرب عن ما اختص الله به عامة الشهداء من عظيم الخصال، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “للشهيد عند الله ست خصال، يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه” (الأربعون في فضل الشهادة، حسن قائد، ص: 21).
وفي فضل الشهادة ومكانة الشهيد آيات وأحاديث عظيمة وكثيرة لا يسع المقام إلا لذكر بعضها، وما ذلك إلا لتلك المرتبة العالية التي أعدها الله عز وجل للشهيد وأكرمه وعوضه بها، ولتبيان أثر التضحية في النفس والمال والغالِ والنفيس في سبيل الله جهاداً وإقداماً وتفضيلاً.
إن الله عز وجل اختص الشهيد بمكانة سامية سامقة لا تدانيها مكانة.. في الدنيا وفي الآخرة.. ومن عظيم كرم الله تعالى لهؤلاء الشهداء الذين باعوا أنفسهم من أجل الله، وتساموا على ما يحبون وتغلبوا على شهواتهم، واسترخصوا الحياة في سبيل الظفر بالشهادة نيلاً لإرضاء لله؛ أنه تعالى اختار لهم خير الأسماء والألقاب، وخير الذكر وخير الخلود، اختار لهم مكانة رفيعة تعد مضرب المثل في العلو والسمو والتسامي والمعالي، تلك المكانة التي لا يصل إليها إلا الأنبياء والمرسلون والشهداء، ومَن اختارهم الله تعالى من عباده الصالحين.
إن إظهار هذا الدين وارتفاع رايته عالياً خفاقة فوق الربوع لا يكون إلا بالاستعداد الجهادي عند المسلمين والحرص على الشهادة والعمل لأجلها، والشهادة في سبيل الله أمنية أمنية يتمناها القلب المؤمن ويحرص على كسبها المجاهدون، وإن الجهاد في سبيل الله هو روح هذه الأمة التي تعلي رايتها، وإن الغاية من الجهاد هي إعلاء كلمة الله تعالى، وإن من أعز المجاهدين على الله المجاهد الذي يصدق الله فيصدقه ويختاره من بين عباده شهيداً، والشهادة اجتباء وانتقاء لا يصل لها إلا المختارون المصطفون وهي أمنية عزيزة على قلب كل مؤمن بالله. (أحاديث الشهادة والشهيد، ريان، ص: 6).
المراجع:
• تفسير ابن كثير
• فضل الشهادة ومنزلة الشهيد، محمد رسلان.
• الأربعون في فضل الشهادة، حسن قائد، مركز الفجر للإعلام، 1432هـ.
• أحاديث الشهادة والشهيد، نزار ريان، رسالة ماستر، الجامعة الأردنية، الشريعة والحقوق والسياسة، 1990م.
• صحيح البخاري.