هذا الصحافي الإسرائيلي المحترم

محمد كريشان20 نوفمبر 2024
محمد كريشان

انهالت عليه المذيعة الإسرائيلية بالأسئلة الاستنكارية، وكل ما في ملامحها يقول إنها ترغب في الانقضاض عليه للفتك به. سألته مزمجرة: جدعون لماذا لا تتركنا وتذهب وتعيش في غزة؟

ضيفها لم يكن سوى زميلها المفترض جدعون ليفي، أما غضبها فمردّه أن هذا الصحافي انتقل من معارضته الاحتلال الجاثم على صدور الفلسطينيين منذ عقود، وفضحه الدائم لممارسات جيشه والمستوطنين، إلى معارضة حرب غزة المستمرة منذ أكثر من عام في تناقض صارخ مع مزاج الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين وطبقتهم السياسية.

طوال هذا العام كتب جدعون ليفي عشرات المقالات وقال الكثير في مقابلاته التلفزيونية عن هذه الحرب وتداعياتها. تحدث عن «فقدان البوصلة الأخلاقية في إسرائيل» التي «لم يسبق أن انحدرت إلى هذا المستوى المتدني» من «تحريم الشفقة، التي لم يعد مسموحا التعبير عنها تجاه ‏الفلسطينيين، ولا حتى الأموات أو الجرحى أو الجوعى أو المعاقون منهم، ولا الأيتام ‏الرضع».

أكثر من ذلك، يرى ليفي أنه قد يثبت أن فقدان إسرائيل لإنسانيتها تجاه الشعب الفلسطيني غير قابل للعلاج، بل ‏وثمة شك كبير في أن يتمكن البلد من ‏استعادتها بعد هذه الحرب. ‏

آراء صادمة لمجتمع لم يعد يرضيه سوى قتل المزيد والمزيد من الفلسطينيين يدلي بها هذا الصحافي المحسوب على اليسار الإسرائيلي، والذي يصفه البعض بأنه بطل شجاع صاحب ضمير فيما تكرهه الأغلبية التي وصلت حد اعتباره بوقا للمقاومة الفلسطينية، حتى أنه قال إن ولديه نفسيهما لا يشاركانه أفكاره ولا يقرآن حتى مقالاته.

ليفي، الذي ولد في تل أبيب عام 1953 لأبوين يهوديين مهاجرين من تشيكسلوفاكيا، عمل عام 1974 في جيش الاحتلال مراسلا لإذاعته، كما عمل من 1978 حتى 1982 مساعدا لشمعون بيريز، بدأ عام 1982 الكتابة لصحيفة «هآرتس» اليومية لكن المنعرج الكبير حدث لديه بداية من 1988 حين شرع في كتابة مقالاته عن معاناة الفلسطينيين بعنوان «منطقة الشفق».

وجد نفسه، كما يقول، «وحيدا تقريبا في تغطية الجانب الفلسطيني» فعلى امتداد ثلاثين عاما كان يسافر كل أسبوع إلى الأراضي المحتلة، ويكتب مقالاته عن الصراعات اليومية، ناقلا ما يحدث من أعمال القتل والتهجير وقطع الأشجار وتدمير المنازل. كان يجري مقابلات مع الأمهات الفلسطينيات الثكالى، اللواتي قتل الجنود الإسرائيليون أبناءهن، وينقل قصص قتل الأطفال وحرق المزارع والسيارات والمنازل والاستيلاء على المواشي ومصادرة الأراضي.

ليفي ليس مناضلا فلسطينيا، ولا يصحّ أن ينظر إليه على أنه كذلك، لكنه رجل عرف كيف يغلّب إنسانيته ومهنته على يهوديته وإسرائيليته، وهذا ليس بالأمر البسيط

ولكن لماذا يفعل ليفي كل ذلك في «نشاز» واضح عن الإعلام الإسرائيلي ومعظم الطبقة السياسية؟ يجيب بالقول: «مهمتي المتواضعة هي أن أمنع الإسرائيليين من الوصول إلى يوم يقولون فيه (لم نكن نعرف!!)».

ولهذا ينتقد ليفي ما يسميه «العمى الأخلاقي» لدى الإسرائيليين ويعمل على مقاومته بفضح ممارسات الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وبناء المستوطنات التي يصفها بأنها «المؤسسة الأكثر إجرامية في تاريخ إسرائيل». عارض حرب لبنان عام 2006، وفي عام 2007، قال إن محنة الفلسطينيين في قطاع غزة تحت الحصار الإسرائيلي، جعلته يخجل من أنه إسرائيلي.

ليفي الذي دان ما قامت به حركة «حماس» فجر السابع من أكتوبر استطاع بسرعة أن يتجاوز تلك الصدمة ليطالب لاحقا بضرورة إنهاء الحرب على غزة بل ودعا إلى محاكمة قادة إسرائيل على جرائم الحرب والإبادة الجماعية، مؤكدا من جديد ما كان يقوله منذ سنوات بأن إسرائيل دولة فصل عنصري، مؤمنا بأن الحل لن يكون إلا بإنهاء الاحتلال وصولا ربما يوما ما إلى إنهاء الصراع وقيام دولة واحدة ديمقراطية تجمع اليهود والفلسطينيين على قدم المساواة.

ومع أنه مصنف يساريا إلا أنه لم يخجل من القول إن «فكرة كونك يهوديا وديمقراطيا، مزيج لا يمكن الإيمان به» لأنه يراه محض تناقض، «فاليسار هو المؤسس الحقيقي للاحتلال» قائلا إنه «يفضّل حكومة يمينية. على الأقل، ما تراه هو ما تحصل عليه».

لم يمر كل ما قام به ليفي دون أن يجلب له المضايقات وأكثر من ذلك من قبل جمهور لم تعد تحرّكه سوى نزعات الانتقام المنفلتة من كل ضابط حتى بات يعتبر ما يكتبه هذا الصحافي ويردده في مقابلاته مع وسائل إعلام دولية أقرب ما يكون إلى «الخيانة».

ليس سهلا أبدا أن تكون إسرائيليا وتسبح ضد التيار الغالب في شعبك ضد الفلسطينيين ولكن ليفي صمد منتصرا لإنسانيته ولمهنته الصحافية وما تفرضه من إنصاف ووقوف مع الحقيقة، ولهذا كله يستحق كل التقدير والاحترام، خاصة أنه لم يتراجع أو يضعف أمام حملات شيطنته المختلفة.

ليفي ليس مناضلا فلسطينيا، ولا يصحّ أن ينظر إليه على أنه كذلك، لكنه رجل عرف كيف يغلّب إنسانيته ومهنته على يهوديته وإسرائيليته، وهذا ليس بالأمر البسيط. عرف التاريخ أمثال ليفي خلال سنوات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حين وقف صحافيون وكتاب ومفكرون بيض ضد هذه السياسة البغيضة، ومثله من الفرنسيين ضد استعمار بلادهم للجزائر، ومثله من الأمريكيين ضد حروب بلادهم الكثيرة في فيتنام والصومال وأفغانستان والعراق وغيرها. هي نماذج قليلة لا محالة لكن سيخلّدها التاريخ رغم كل شيء.


محمد كريشان | كاتب وإعلامي تونسي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل