الظاهرة الاستشراقية من الظواهر المتراكمة، التي تتجدّد وتتحدّد ضمن سياقاتها، ومن المهم أن نعايش هذه السياقات المعرفية متى يمكننا التعرف إلى ما يدور بمجتمعاتنا، ويمكننا أن نفكّكها ونركّبها. هذه الظاهرة، كغيرها من الحقائق المنهجية، من الواجب فحصها وتدقيقها ضمن عمليات تشريحها وترشيحها. وبما أن كلّ ظاهرة في أيّ مجال معرفي في العلوم الإنسانية لا بدّ أن تحلّل ضمن سياقات مجتمعية، فلا توجد ظاهرةٌ من دون سياق، فلكل ظاهرة عامّ وخاصّ، وذاكرة، وعلاقات مُتصوَّرة ضمن العلاقة بين الداخل والخارج، كما أن لكلّ ظاهرة سطحا وعمقا، الظاهرة الاستشراقية لا تخرج عن تلك المواصفات والأطر والسياقات. ومن ثمّ، بعد التعرّف إلى خصائص الظواهر بوجه عام، والظاهرة الاستشراقية بوجه الخصوص، تتحدّد مناهج النظر لتلك الظاهرة، ومناهج تناولها، ومناهج التعامل معها وتأثيراتها.
وفي إطار المَعْلم الأول، لكلّ ظاهرة ذاكرة؛ نجد أن الظاهرة الاستشراقية تكوّنت وتراكمت عبر قرون عدّة، ومع ذلك فإن الظاهرة في إرهاصاتها العامّة واستناداتها الأيديولوجية والفكرية سبقت اسمها (الاستشراق). الظاهرة أولاً، ثمّ تتخذ اسماً لها. وتأكيداً على المَعْلم المهمّ أنه لا ظاهرة من دون سياق، فإن الظاهرة الاستشراقية عبر القرون المتعدّدة اتخذت أشكالاً وأوعية اختلفت وتنوّعت، فامتداد الظاهرة عبر الزمن لا بدّ أن يطرح فكرةَ تشكّلات الظاهرة، مشاربها، ومدارسها، وعالم أفكارها، وكذا حقيقة تحوّلاتها، وعناصر الثبات فيها، والمتغيّرات منها. ورغم مقولات نهاية الاستشراق أو موته، فإن تفحّص الظاهرة في إطار المَعْلم الأساس أن لكلّ ظاهرة سطحاً ظاهراً وعمقاً كامناً، ومن ثمّ فإن ارتباط الظاهرة الاستشراقية بالمقاصد الكولونيالية ضمن ارتباطات “النشأة” جعلها تنتقل بين أفكار متعدّدة تشكّلت في اهتمامات وبنيات معرفية تنوّعت في أشكالها، وتعدّدت في مشاربها، فانتقلت مع المرحلة الكولونيالية وإعادة تموضعها مع أفكار مركزية تتعلّق بالمركزية الغربية في هذا المقام. كان هذا الانتقال الشكلاني مرتبطاً بمنظومات الاستشراق الفكرية والمعرفية ومقولاته شبه الثابتة، التي تسفر عن تحيّزات الظاهرة الاستشراقية.
بعد التعرّف إلى خصائص الظاهرة الاستشراقية، تتحدّد مناهج النظر لها، ومناهج تناولها والتعامل معها وتأثيراتها
إن نشأة الظاهرة الاستشراقية قد ارتبطت بمستويَين مهمَّين، لا بدّ من التنبيه إليهما. المستوى الأول يرتبط بمنظومة من المعارف لا يمكن إغفالها أو إهمالها، والمستوى الثاني يرتبط بمنظومة كولونيالية المقصد والهدف، الأمر هنا قد يحمل مزيداً من المفاصلة بين المستويَين، إلّا أن الحقيقة أن الجامع بين المستويَين، والناظم بينهما، منطق نشأة الظاهرة وتحوّلاتها، فضلاً عن (وهو الأكثر أهميةً) المقصد والهدف. وكذا فإن اتخاذ الاستشراق والظاهرة الاستشراقية (أيّاً كانت التسميات)، أشار إلى ما يسمّى بالاستشراق الجديد، فإن التراكم لتلك الظاهرة في أوعية مختلفة، كان مؤذناً بتحوّلات الوظيفة والدور. وفي هذا المقام فإن مراكز بحوث ودراسات الشرق الأوسط، وكذا دراسات المناطق ضمن اهتمامات الحضارة الغربية بمناطق بعينها، ظلّت في معظمها تتبع ذات النهج الاستشراقي، والظواهر المتعلّقة بالبنية المعرفية الكولونيالية. سيرة المفهوم والظاهرة (سيرة ومسيرة وسيرورة) عمليات منهجية بعضها من بعض في دراسة الظاهرة الاستشراقية، وفي بيان تطوّراتها وتحوّلاتها. ومن المهمّ في الدراسات الاستشراقية أن نشير إلى عدّة أمور:
أولاً، أن برنارد لويس مثّل المسؤول الأكبر عن صياغة تحوّلات وتشكّلات الاستشراق، والتأكيد على منهجية التعامل مع واقع ما سمّي بالشرق لأوسط، ومن ثمّ فإنه بذاته ومجالاته، التي طرقها في الكتابات التي تميّز بها، والمراكز البحثية التي عاونته وشكّلت دعماً لأجندته للظاهرة الاستشراقية، دفع إلى التركيز في مفاصل ومجالات مستجدّة.
ثانياً، أن الاستشراق منهجيةً في حال التطوّر والتحوّل ووجه بالاستشراق بمدارسه وتوجّهاته التقليدية (الكلاسيكية)، لأنه كان في بعض منه متمسّكاً بالأطر المعرفية للاستشراق التقليدي، وسواء سمّي ذلك بالجديد أو وصف بغير ذلك، فإن الاستشراق بدأ يهتم بمسائل وقضايا مثل “الأصولية” و”الإسلام السياسي” و”الإسلام المناضل” و”الإسلام الراديكالي” و”الإسلام المسلّح”، بل انتقل إلى “الإرهاب”، وجعله ظاهرةً ضمن صناعة الظواهر فيما اعتاد عليه من اختراع العدوّ ضمن مقولات استشراقية موروثة، ومسائل تتعلّق بالإسلام والعنف، وبالإسلام والديمقراطية، وبالإسلام والتنمية، وبقضايا أخرى تصدّرت السجال بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، حتى أن مستشرقاً مثل مونتجمري وات (القسّ)، بدا له أن تلك المدرسة التقليدية (وهو منها) يتجاوزها الاستشراق المُتحوِّل موضوعاً وقضاياً، قضاياً أخرى، فاضطره ذلك إلى أن يؤلّف مؤلّفاً في أخريات حياته حول الأصولية، تلك الموضة الفكرية التي تلقّفها هؤلاء من مستشرقين جدد لمعالجة وتناول هذه القضايا.
خرجت مواصفات المستشرق من أشكالها القديمة إلى أشكال جديدة، فصار المستشرق خبيراً إعلامياً، أو مستشاراً لهيئات دولة مثل وزارات الدفاع والخارجية…
ومن ثمّ، فإن مواصفات المستشرق قد خرجت من أشكالها القديمة إلى أشكال جديدة، فصار المستشرق خبيراً إعلامياً، أو مستشاراً لهيئات دولة مثل وزارات الدفاع والخارجية ومجالس النواب والشيوخ… إلخ، وانزوى ذلك الاستشراق الكلاسيكي والمعرفي فصار حالةً متخفّيةً ومحتفىً بها، على نحو مظهري للدلالة على الظاهرة، ولكن لا يقل بأيّ حال عن الاستشراق الجديد وبرامجه المستجدّة، وقاد تلك التوجّهات المستشرق برنارد لويس، باعتباره مايسترو هذه “المشاهد الاستشراقية المتحوّلة” ضمن إعادة تعريف الظاهرة الاستشراقية وإعادة صياغة برنامج عملها الجديد. حُشر الأقدمون في زوايا الجامعات ومراكز البحوث، وبرزت مراكز أخرى تهتم بالدراسات الاجتماعية والإنسانية وتهتم بأمور أخرى استدعت تشكيلات جديدة وإعادة صياغة الاهتمامات الاستشراقية وظائفَ وأدواراً، وبدا المستشرق المتخفّي المُحتفَى به احتفاءً في طبعة صارت في ذمة التاريخ.
وبدا ذلك واضحاً، حتى في مدرسة العلوم السياسية، إذ برز في هامش المتخصّصين في علوم السياسة من يتحدّثون عن إشكالية تطرح فكرةَ مركزية الحضارة الغربية مثل صامويل هنتنغتون في “صدام الحضارات”، وفرانسيس فوكوياما في “نهاية التاريخ”. ولكن، لا بدّ أن نشير في الوقت نفسه إلى بروز مدرسة في العلوم السياسية، وفي علمي الاجتماع السياسي والتاريخي، من مثل برتران باديه و”تيموثي ميتشيل وآخرين، من بعض دارسي الظاهرة الإسلامية السياسية.
برنارد لويس هو مايسترو “المشاهد الاستشراقية المتحوّلة”، ضمن إعادة تعريف الظاهرة الاستشراقية وإعادة صياغة برنامج عملها
ثالثاً، من المهم كذلك في الظاهرة الاستشراقية أن نتتبّع البنى المعرفية ومجتمع المعرفة في الغرب والشرق؛ والبنى التحيزية والأحكام المسبقة، وهو طيف واسع من المقولات والأحكام الاستشراقية، والبنى المفاهيمية التي أشرنا إلى بعضها في خضمّ تداعيات سؤال الاستشراق، وهو ما أثّر بدوره في؛ البنية الإدراكية من الغرب للشرق، ومن الشرق للغرب؛ البنية المُحدِّدة للعلاقات (الشرق والغرب، الداخل والخارج، الأنا والآخر)؛ البنية الفكرية الضاغطة على مسائل التغيير والنهوض والإصلاح؛ البنى الاتهامية للحضارة الإسلامية وأوصافها السلبية إلّا من قليل؛ البنى المتعلّقة بالعلاقة بين المغلوب والغالب والقابليات للتقليد. ومن هنا، فإن التعرّف إلى جملة البنى تلك في دراسة عالم الأفكار والمفاهيم والتعميمات والإدراكات ونماذج السلوكات، وجب أن تكون في محلّ فحص وبحث ودرس، في ظلّ واقع الالتباس المعرفي والحضاري ببعد منهجي عميق ونظر رصين.
إذاً، سؤال الاستشراق له صلة مباشرة وغير مباشرة بخريطة الأسئلة المتعلّقة بالنهوض؛ سؤال التاريخ، وسؤال الهُويَّة الحضارية، وسؤال التراث، وسؤال التجديد، وسؤال التخلّف، وسؤال الإنماء والتنمية، وسؤال الدين والاعتقاد، أسئلة بعضها من بعض لا بدّ من رؤيتها ضمن منظومة الأسئلة الواجب أن نخرج منها بحقيقة السؤال، كيف يكون، وكيف يصاغ، وكيف تُستدعى منظومته، ولماذا. وفي ضوء هذا كلّه يمكن أن ننظر إلى الاستشراق وأسئلته الفرعية التي تعلّقت به، ليس بوصفه سؤالا مفردا، بل باعتباره سؤالاً متعلّقاً بأسئلة أخرى ضمن منظومة تحدّد منهج النظر ومنهج التناول ومنهج التعامل، وخرائط الأسئلة الكلّية المتعلّقة بمسألة النهوض، ذلك أن تلك الظاهرة لا يمكن النظر إليها مفردةً قائمةً بذاتها، إن غالب القصور قد يتأتّى من طرح سؤال الاستشراق وكأنه سؤال معلّق في الفضاء من دون بيئة من السياقات.