بعد المتابعة المتراكمة في سؤال النهوض، وقد توسطته موضوعات أخرى عن الغرب ومفهومه، والغرب والشرق والاستشراق، نعود إلى سؤال النهوض مجدّداً، ومن أسباب هذا التجدّد والاستئناف، كان علينا أن نعود إلى إعادة طرح سؤال النهوض في صياغته الختامية، بما يحدّد الموقف من منظومة النهوض. وفي البدء، كان علينا أن نجعل من سؤال: لماذا نتحفّظ على “مفهوم” النهضة، واعتماده في سؤال التأسيس؟ سؤالاً افتتاحيّاً يشير إلى مغزى ذلك التحفظ ونجمله في عدة اعتبارات:
أولاً: ذاكرة المفهوم؛ الارتباط التاريخي بين المفهوم والحضارة الغربية من جرّاء مضاهاة في الترجمة بين لفظة النهضة قبالة Renaissance، فاستقر أمر الكلمة وضعاً ونقلاً ضمن هذا الارتباط والتلازم بين الكلمتين. ورغم شيوع كلمة النهضة في الاستخدام، إلا أن ذلك مهّد لوضعٍ ملتبسٍ لجهة الفهم والإدراك للمفهوم.
ثانياً: إشكالات الترجمة وصناعة الالتباس: أرست الترجمة مفاهيم كثيرة في باب الالتباس والغموض والتدليس والاحتيال، مثل كلمة “الاستعمار” التي أفضنا في مرّات عدة في الإشارة إلى خطورة ترجمتها بهذا المعنى الشريف، النهضة أيضا تشير إلى حالة التباسٍ ضمن العموم والاستئثار بهذه المفردة (النهضة) للدلالة على النهضة الأوروبية والغربية.
ثالثاً: إشكالات التداخل اللغوي: تبدو لنا مسألة بين لغتين من جرّاء النقل والترجمة مسألة أساسية حيوية، خاصة حينما تكون اللغة والترجمة منها وإليها تنازع ميزان المعنى والمغزى في المفردات المختارة. ولذلك صار من قبيل المثل أن “المترجم خائن”، ليس بالمسألة اليسيرة في هذا المقام، بل هي تقتضي التنازع منذ البداية، ولعل ذلك يحيلنا إلى سعة نظرية الاشتقاق في اللغة، وتخيّر لفظ غير ملتبس، وإن كان من الجذر نفسه، وضمن هذا، كان اختيارنا مفردة “النهوض”.
أرست الترجمة مفاهيم كثيرة في باب الالتباس والغموض والتدليس والاحتيال
رابعاً: الفهم المنظومي لمفاهيم التأسيس، من المسائل التي تنهض في مواجهة عملية التدافع المفاهيمي، والملتبس والمدلس فيه أن نواجه حالة التلبيس تلك بمنظومةٍ من المفاهيم، تعمل كلها مع تكافلها وتكاملها دوراً مهمّاً في مسألة البيان والإيضاح، وقد تكون ملاذاً آمناً من كل هذه العمليات، المقصود منها وغير المقصود، ولعل لفظة النهوض تقوم بمنظومتها، وتُقام أرحامها من المفردات.
خامساً: أزمة الوضع والنقل والترجمة والاستعمال وبالجملة التداول، ومن المسائل الخطيرة أن تجمع مفردة واحدة كل أنواع الأزمات والتأزيم، ولعل مفردة النهضة والتنافس في تبنّيها، خاصة لمعانيها الإيجابية التي سادت وانتشرت، أدّت إلى أن أحزاباً سياسية تسمّى النهضة، ومشاريع اتخذت من تلك المفردة عنواناً “مشروع النهضة”. وزاد هذا كله الموقف التباساً وارتباكاً، فالنهضة في وضعها الأجنبي الوافد، والنقل الغافل أو المتعمد، والاستعمال الدارج صنع أزمتها المركّبة والمعقدة.
سادساً: إشكال التحقيب التاريخي الذي سيتناوله تفصيلاً مقال لاحق، لأهمية هذا الإشكال وتعلقه بسؤال النهوض، وسؤال التاريخ في الوقت نفسه والوعي به، وألفاظ تتعلق بالمشاريع الحضارية للأمة يجب التدقيق فيها تاريخاً ونشأة واستخداماً وتداولاً.
في سياق هذه الإشكالات الست، يبدو أن إشكال سؤال النهوض والتدقيق به وفيه أمرٌ معقد، خاصة ما يتركه من مآلات في مسألة السؤالين، التابع والنابع، كما أشار إلى ذلك مقال سابق. إن سؤال النهضة مع التباس هذا المفهوم والتأكيد على النمط الغربي في النهوض ومن ثم تجنب السؤال بهذه الصيغة، وتبنّي سؤال النهوض ليس مجرّد استبدال كلمة بأخرى أو باشتقاقات متنوعة للجذر اللغوي “نهض” أو بحركة الكلمات، وإنما معنى يحدّد مسارات التفكير، ومناهج التعامل مع مسألة النهوض.
فعل النهوض من الأفعال التي تستعصي على النقل الآلي أو التقليد الخانق بالحذافير، أو التبعية المنتجة لمسخٍ لا يرتبط بحقائق الأشياء وأصولها
ولا ننكر في هذا الصدد أن تنازعاً ضمن ساحات الفكر العربي قد نشب بشأن مفهوم النهضة في إطار أوصاف عدة، مثل “النهضة العربية” و”النهضة الإسلامية”، سواء بالتبنّي أو التجنّي، وكذا اعتمادهم الصلة الشكلية من دون الدخول إلى عمق مسألة النهوض ومستلزماتها وكيفياتها ضمن ما أسميناها الأسئلة التابعة من حقائق القضايا المفصلية التي ترتبط بالأمة، لا الأسئلة التابعة التي تلحقنا برؤى الحضارة الغربية وجملة إدراكاتها وتصوراتها.
من المهم في هذا المقام أن نشتبك مع السؤال الكبير المتعلق بالنهوض، ضمن ما يمكن تسميته حال المفهوم، وهو يعني أمرين مهمّين: الأول. حال المفهوم في الذاكرة الحضارية والتاريخية (حمل مفهوم النهضة) لا باعتباره مدخلاً للتفكير، بل لجعله مجالاً (للتبعية) والتقليد، إن أسر التبعية خطير (حتى لو دخلوا جحر الضب لدخلوه معهم)، وحال التقليد أخطر، فإنه يجد كل عناصر الصحة في من يقلده، وكل عناصر الخطأ والخطيئة في من يتبنى فكراً مغايراً أو مخالفاً فهو عنده من الضالّين. ومن المؤسف حقاً أن تستخدم هذه الكلمات وفائض الأوصاف من الفضاء الديني للتعبير عن هذه الحالة في ميزان المواقف والتوجهات المختلفة.
الثاني. حال المفهوم بين المقولة ـ المعادلة ـ عند مالك بن نبي الذي كانت تأليفاته قد اتّخذت اسماً كبيراً “مشكلات الحضارة” مفعمة بكثير مما يمكن تسميتها المعادلات الحضارية، وهذا باب يستحق الإشارة الآن، وإن كان يتطلب تفصيلاً دقيقاً، ومعادلة مالك بن نبي إذا هي معادلة الصحة والصلاحية؛ وهي تعني أن الأمر قد يكون صحيحاً في حضارته، صالحاً لمجتمعه وثقافته (الصحة)، ولكن ليس بالضرورة مع صحته أن يكون صالحاً وملائماً ولائقاً عند غيره مجتمعاً وثقافة (الصلاحية)، فإن فعل النهوض من الأفعال التي تستعصي على النقل الآلي أو التقليد الخانق بالحذافير، أو التبعية المنتجة لمسخٍ لا يرتبط بحقائق الأشياء وأصولها. ولعل هذه المعادلة حدت بمفكر آخر وعالم اجتماع فذّ، مثل علي شريعتي، حينما تحدّث عن جغرافية الكلمة.
إشكال سؤال النهوض والتدقيق به وفيه أمرٌ معقد، خاصة ما يتركه من مآلات في مسألة السؤالين، التابع والنابع
انطلاقاً من تلك الطريقة، لدينا ملاحظات جلها تشير إلى عملية تداخل مفاهيمي، وجب فك ارتباطاته. وعالم المفاهيم والقيام بتشريحه يتطلب القيام بعملية أساسية، وهي ترشيحه، في سياق يميز بين أمرين؛ أولهما ما يرتبط به من مفاهيم، من عائلته نسباً وصهراً، مساندة ودعماً، تكاملاً وتكافلاً، من دون ادّعاء مطلق بالنقاء المفاهيمي، إن صح هذا التعبير. ولكن الغرض من ذلك بذل غاية الجهد بما لا مزيد عليه في القيام بهذه المهمة المقارنة النقدية في آن واحد. وثانيهما ما يختلط به من مفاهيم قد تنقضه أو تُحدث به خلخلة تفقده تماسكه، أو تسميماً يعدل عالم أولوياته وفهم مضامينه تمهيداً لتوظيفه واستغلاله. الاختلاط هنا من دون تمييز قد يؤدّي، بالضرورة، إلى تمرير الصياغات الملتبسة في عالم الأسئلة، أو الأسئلة المفخّخة والزائفة، أو الوقوع في فخّ الأسئلة التابعة لا النابعة.
يهدف دأبنا في هذه المقالات المتتابعة على مشاريع النهوض والإصلاح إلى أن تتحول طريقة تناول هذه الموضوعات من السجال إلى الطرائق المنهاجية الفعّالة التي تحفظ لنا معاني الاستقامة العلمية، والخروج إلى رحابة الحوار الذي يصل إلى الاتقان بشأن نقاط مركزية يحسُن الرجوع إليها باعتبارها معايير علمية ومنهجية وبحثية في عمليات النظر والتناول والتقابل، مع تلك القضايا الأساسية، وكذا الفرعية منها والجزئية.
هذه المفاهيم التي ترتبط بسؤال النهوض حينما نعالجه بصفته حالة منظومية أو شبكية أو باعتباره شجرة مفاهيمية من الأمور الدقيقة في عملية التناول المنهجي، بغرض تفادي “الحمولة الأيديولوجية” المسبقة، أو الحمولة السياسية الكامنة، أو الحمولة السلبية التي قد تشير إلى معانٍ تُفسد كل ما يترتب على ذلك من بناءٍ فكري ومعرفي، أو مواقف أساسية وحضارية.