شبح الفراغ

أيوب بوتشيش17 ديسمبر 2024
أيوب بوتشيش

بدأ علال حديثه ككل مرة ونحن نحتسي فنجان القهوة المسائية عن ابنه التائه بين دروب الحياة، فثقل هذه الأيام أرخى بظلاله على مسار ابنه (محمد)، فبعدما غادر أسوار المدرسة بسبب قلة استيعابه للدروس، وجد أمامه امتحانات الحياة الأشد صعوبة، والتي أحاطته بشبح الفراغ، ليجد نفسه بين أزقة الحي مؤنسا وحشة جدولته اليومية الكئيبة بكرة القدم، إما مشاهدة أو لعبا…

مرت الأيام وهو يدحرج الكرة بين دروب الحي، ومعها تتدحرج عجلة أيامه لحدود منتصف العقد الثاني من العمر دون أي حرفة أو شهادة ولا حتى تكوين مهني، مشكلا بذلك جزء آخر من قصص الشباب الضائع.. لكن الأكيد أن قصة «ولد علال» نسخة مكررة للعديد من شباب الوطن الذين تمر أيامهم تحث شعار “لا جديد يذكر”، وهذا ما أكده تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مؤخرا، حيث أبرز أن أكثر من ربع شباب المغرب في حالة من الضياع، أي  ما يراوح المليون ونصف المليون من الشباب  بين سن 15 و24 سنة ليس لهم أي شهادة، ولا يزاولون أي نشاط مدر للدخل، أو حتى مجرد تدريب قد يخول لهم الالتحاق بالعمل في وقت لاحق، هذا ما بات يعرف عالميا بظاهرة “النييت” NEET، وهو المصطلح الذي يتشكل من الحروف الأولى لكلمات الجملة الإنجليزية: «Not in Employment Education or Training»، التي تعني حرفيا  الأشخاص الذين لا يدرسون ولا يشتغلون وليس لديهم أي تدريب.

بدايات «النييت» وتبلور المفهوم

كشف المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في تقرير له أن لفظ “النييت” استخدم أول الأمر سنة 1999 للإحالة على الأشخاص الذين ينتمون إلى الشريحة العمرية بين 16سنة و18 سنة والمنقطعين عن الدراسة دون أن يلتحقوا بسوق الشغل ولم يسمح لهم القانون أنذاك بالاستفادة من منحة البطالة، وبعدعا تطور المفهوم تدريجيا ليستق عند منظمة العمل الدولية في الفئة التي تعاني من غياب أي انشغال دراسي أو مهني ضمن الفئة العمرية بين 15 و24 سنة.

يشكل الشباب بالمغرب نحو 16 بالمئة من السكان، أي حوالي أكثر من ستة ملايين شاب وشابة حسب المندوبية السامية للتخطيط (سنة 2014)، فيما تتوقع المندوبية أن يرتفع العدد لحوالي ستة ملايين و300 ألف نسمة في سنة 2030، وهذا يبرز حجم هذه الفئة في النسيج الديمغرافي، نظرا لمدى تأثيرها اقتصاديا واجتماعيا…

مشكلة “النييت” تسهم في تكبيل طموح المغرب إذا ما نظرنا إلى حجم التكلفة التي يخسرها بعدم استفادته من هاته الطاقة البشرية التي تشكل نسبة هامة من السكان النشيطين، ما يضعنا أمام كومة من التساؤلات أهمها:

ما أسباب ارتفاع نسبة “النييت”؟ هل من حلول واقعية وجريئة لمجاوزة هذا المشكل؟ باعتبارأن العدد مرشح للازدياد سنة بعد سنة.

مسببات «النييت» والحلول بين السلوك المجتمعي وسوء التدبير

تختلف الردود حسب زوايا المعالجة، فهناك من يفترض أن الازدياد في نسبة “النييت” يرجع أساسا للعامل الاجتماعي، بداية من الأسرة التي لا توجه الطفل والمراهق التوجيه الصحيح، اعتمادا على ما تمتلكه من الوسائل والآليات للحيلولة دون وقوع الطفل أو المراهق في حفر اللا شيء، فإن لم تكن المدرسة خيارا أمثل يتم اختيار مسار آخر ملائم كالتكوين المهني، أو تعلم حرفة في الورشات المهنية التي من شأنها ملء فراغ ساعات اليوم وسد الحاجة المادية، فعلى حد قول المغاربة “الحرفة لما غنات تعيش…”.

مقابل ذلك، هناك من يحمل الدولة جزء كبيرا من المسؤولية عن هذا الارتفاع، معتبرا أن ذلك نتاج طبيعي للسياسات العمومية غير الناجعة تعليميا، انطلاقا من محدودية المقررات الدراسية مضمونا، وصولا إلى الهندسة البيداغوجية التي تنافي الإبداع والتحليل والنقد، والتي ترتكز أساسا على التلقين واجترار المعارف كحال أغلب البلدان العربية.

دون نسيان دور التعليم غير المنسجم مع سوق الشغل في التأسيس للظاهرة، فتعليمنا يركز على المهارات النظرية واللغوية التي في أحسن أحوالها تعتمد على الفرونكوفونية، ولسنا هنا بمعرض الحديث عن الفرنسية كلغة للتواصل والتعليم، بل ما يتعداها إلى أنساق تفكير وثقافة وأساليب حياة تتجاوز الإطار التواصلي إلى حد الوله باللغة وجعل كل إصلاح خارج دواليبها غير ممكن، إذ الفرنسية في حد ذاتها لغة متجاوزة معرفيا، كون الباحثين الفرنسيين  أنفسهم  ينشرون مقالاتهم العلمية بالإنجليزية لمجاراة تسارع الإنتاج المعرفي العالمي، ناهيك عن كون اللغة جزء من الفكر وليس وعاء محايدا، فتركيز المغرب على اللغة الفرنسية تحديدا مع انفتاحه المحتشم على اللغات الأجنبية الأخرى يزيد من الفجوة بين التلميذ والمدرسة إذا ما نظرنا إلى ضعف مستوى الكثير من التلاميذ والطلبة في امتلاك ناصية لغة موليير، وعدم استفادتهم بشكل أقصى علميا ومعرفيا في أحسن الأحوال ولو أتقنوها.

في ذات السياق لا يجب أن ننسى دور تناوب الإصلاحات في قطاع التعليم بالمغرب، التي جعلت من التلميذ فأر تجارب لكل الإصلاحات الممكنة، وفي الغالب المستوردة التي لا تراعي بأي شكل من الأشكال الخصوصية المجتمعية والثقافية للتلميذ المغربي، الذي يجد نفسه بين منعطفات معلومة النتيجة: إما المواصلة بنسق متذبذب، وإما إكمال المسار الدراسي بمستقبل مجهول أو الوقوع بين  مخالب “النييت” NEET.


أيوب بوتشيش | كاتب صحفي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل