لا شيء يحدث بالصدفة، وحتى إذا وقعت الصدفة، فهي ليست سوى خيط في نسيج أكبر تحيكه الضرورة بعناية لا ندرك تفاصيلها.
هكذا ينبغي لنا أن ننظر إلى عملية الطعن بالسلاح الأبيض التي قام بها مواطن مغربي، حديث العهد بالهجرة نحو الديار الأمريكية، في قلب العاصمة الإسرائيلية تل أبيب.
السياسة ليست حكرا على ما يفعله ويقرره المسؤولون فقط، بل هي نشاط اجتماعي شامل يتجاوز حدود المؤسسات الرسمية والقرارات الحكومية.
السياسة هي كل ما يفعله الناس ويتحدثون عنه ويعبرون من خلاله عن رؤاهم ومواقفهم. إنها التفاعلات اليومية، والمشاعر التي يحملها الأفراد، والتمثلات التي يصوغونها عن أنفسهم ومجتمعاتهم والعالم.
السياسة تتجسد في احتجاج الشاب الذي يطالب بحقه، وفي الكلمة التي يكتبها المثقف ليشعل وعيا، وفي الحوار البسيط الذي يدور بين جارين حول قضاياهم المشتركة.
إنها جزء من الهوية، ومن طموحات الناس وصراعاتهم، ومن الأمل الذي يحملونه لمستقبل أفضل. بمعنى أوسع، السياسة هي كل تعبير عن إرادة التغيير أو التثبيت، سواء كان ذلك من خلال مؤسسات الدولة أو من خلال نشاط الأفراد والمجتمعات.
إنها القوة التي تربط بين ما هو شخصي وما هو عام، بين الفرد والمجتمع، وبين الحاضر والمستقبل.
هذا شاب مغربي من مواليد منتصف التسعينيات، أي أن عين وعيه فتحت على هدير مسيرات الربيع العربي وثوراته وإصلاحاته وخيباته، حصل بعدما بات في أواخر العشرينيات من عمره على فرصة هي بالنسبة للكثير من أقرانه أشبه بتحول الحلم إلى حقيقة، حين ابتسم له الحظ وظهر اسمه ضمن الذين اختارتهم “قرعة” الحصول على فرصة الهجرة والإقامة الدائمة في الولايات المتحدة الأمريكية.
سافر عبد العزيز قاضي متم العام 2022، واستقر في أحد أحياء مدينة نيويورك، وبات يعيش حياة مستقرة يحلم بها كل شاب مغربي انسدت في وجهه آفاق المستقبل. لكنه وقبل بضعة أيام، حمل حقيقة سفره وركب الطائرة نحو إسرائيل، مرورا بوارسو، عاصمة بولندا، وحل في مطار ين غوريون يوم السبت 18 يناير 2025، أي في اليوم الذي كانت القلوب تخفق فيه بقوة، والأرواح تتطلع بلهفة إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، بينما خلف هذا المسافر الغامض، استعدادات متسارعة لتنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية من جديد.
للساسة والمسؤولين وأصحاب القرار أجنداتهم وقراراتهم وترتيباتهم، وللإنسان العادي والمنذور للبحث عن خلاصه الفردي، أجندته الخاصة.
حمى التراشق السريع والمفضوح بالمسؤوليات بين الأجهزة والمؤسسات الإسرائيلية التي اشتدت منذ سابع أكتوبر 2023، كشفت بسرعة كيف أن مصالح وزارة الداخليه الإسرائيلية المسؤولة عن منح ورقة الدخول للوافدين عليها من حاملي التأشيرة، ارتابت في الغاية من قدوم هذا المغربي الحامل لبطاقة الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية، فأحالته على جهاز الأمن الداخلي لتشخيص حالته، فكانت النتيجة ألا شيء يبرر منعه من الدخول، رغم أجوبته غير المقنعة حول سبب الزيارة، وعدم توفره على حجز فندقي ولا قرابة عائلية مع أي شخص مقيم في إسرائيل…
هنا تطوعت النكتة التي تبدعها المنصات الاجتماعية لتخبرنا أن الضابط الذي تولى التحقيق معه، من أصول مغربية، لهذا تعاطف معه وسمح له بدخول إسرائيل.
كانت ورقة الدخول تمنح لعبد الرزاق قاضي مدة أسبوع واحد كفترة إقامة قانونية، تنتهي في 25 يناير، فكان قرار هذا الزائر الاستثنائي هو تنفيذ عملية الطعن يوم أمس الثلاثاء 21 يناير، أي بعد يومين من إطلاق المتحدث باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، عبارة “من طنجة إلى جاكرتا”، التي ألهبت حماس البعض في المغرب.
أعرف أن جل من سيقرؤون هذه السطور ينتظرون التعبير عن موقف تجاه العملية، وهو أمر مثير للمشاعر والاهتمام بالفعل، لكنه بالنسبة إلي ثانوي مقارنة بمحاولة قراءة الحدث وفهمه.
لكن لا بأس في قوس صغير يصنف العملية ضمن العمل الفدائي ضد الاستعمار بكل بساطة، لأننا كمغاربة أحفاد مقاومين أمثال محمد الزرقطوني، ممن فجروا الأسواق والقطارات واستهدفوا المستوطنين المحتلين… وعندما تحقق الاستقلال، ولو أنه كان ناقصا، أطلقنا أسماء هؤلاء الفدائيين على الشوارع والساحات بكل فخر ودون أدنى مركب نقص رغم كل التقارير والقصاصات التي خلفها الاستعمار، وكان يصف فيها هؤلاء بالإرهابيين.
نعود إلى محاولة الفهم. وبما أننا في لحظة مفصلية في ترتيب الأوضاع الدولية والإقليمية، وخاصة لحظة تنصيب ترامب من جديد كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، فإن العملية تحقق للمغرب عصفورين بحجر واحد:
أولا هي تعبير واضح وصريح عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه مشاعر المغاربة تجاه ما يجري في فلسطين من تقتيل وتنكيل وإبادة، وبالتالي يحق لصاحب القرار المغربي أن يرفض تقديم المزيد من التنازلات في المسار التطبيعي.
لقد سارعت إسرائيل إلى إعلان المغرب منطقة خطيرة ينبغي لرعاياها تجنب السفر إليها، مباشرة بعد عملية 7 أكتوبر 2023، وهو ما يعبر عن محاولة الضغط على المغرب والتشكيك في فعالية أجهزته الأمنية في حماية الزوار الأجانب.
لكننا اليوم أمام دليل ملموس على أن المغاربة ليسوا حمقى ولا يغامرون باستقرارهم الداخلي، لكن الغضب يمكن أن يصل ببعضهم إلى درجة التضحية بالبطاقة الخضراء الأمريكية وما تحمله من امتيازات، لتبليغ رسالة حبرها من دم في قلب عاصمة الكيان.
ثانيا، وهذا عصفور ثان أسقطه حجر عبد العزيز قاضي: لا يمكن توجيه أي اتهام للمغرب أو لمؤسساته الأمنية، سواء بالتقصير او غيره من التهم الممكنة، في علاقة بهذه العملية.
نحن أمام مواطن مغربي هذا صحيح، لكنه مقيم في الديار الأمريكية وحاصل على الإقامة هناك، أي أنه تحت الولاية الكاملة للوكالات الأمنية والاستخباراتية الأمريكية، ولم ينتقل إلى إسرائيل من المغرب، بل جاءها عبر بولندا، والأجهزة الأمنية الإسرائيلية فحصته بعناية ولم تستطع الكشف عن نوايا هذا الزائر الخاص، وها هي أجهزتها تتراشق بتهم المسؤولية عن خطأ التقدير الذي حصل لديها.
بعيدا عن أي منطق يستعذب نظرية المؤامرة ووجود مخططات وراء كل ما يحصل، ولنكتفي بفرضية الصدفة، وهي تكفي لأخذ ما يكفي من دروس وعبر:
القضية الفلسطينية تسكن، بل تستبد بوجدان المغاربة، وعلى السياسات العمومية، بما فيها تلك المتعلقة بالعلاقات الدولية، أن تأخذ مشاعر المغاربة بعين الاعتبار.
والبعد الأساسي الذي يفسر هذه العلاقة الخاصة بين المغاربة وفلسطين، هو البعد الديني، بدليل ما خلفه عبد العزيز قاضي من تدوينات (قبل أن تحذف شركة ميتا حسابه)، حيث كان هذا الشاب المغربي يستنكر الجرائم الإسرائيلية في حق الفلسطينيين بقاموس ومبررات دينيين.
ومن عجيب الصدفة أن تتزامن العملية التي نفذها مغربي قادم من أمريكا في قلب إسرائيل، مع تنصيب ترامب رئيسا لأمريكا من جديد، وهو عراب التطبيع المغربي الإسرائيلي.
حلل يا دويري!