CNSS.. رسائل القرصنة

يونس مسكين14 أبريل 2025
يونس مسكين

قضيت اليومين الماضيين، على غرار الملايين من المغاربة، منغمسا في محاولة فهم واستيعاب عملية القرصنة الهوليودية التي تعرّض لها النظام المعلوماتي للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

وإذا كان جل هؤلاء الملايين قد انغمسوا في جبل الوثائق المسربة لمحاولة فهم سياقهم الاجتماعي والاقتصادي، والاطلاع على الأسرار التي ظلت تحجبها عنهم حواجز البيروقراطية وغياب الشفافية في تدبير المؤسسات ووضع هيكلتها؛ فإنني شخصيا انغمست في الموضوع من زاوية التحقق أولا، مستعينا في ذلك بعدد من الأصدقاء الكرماء، ثم لمحاولة فهم وترجمة ما بين سطور الرسائل المباشرة وغير المباشرة لعملية القرصنة هده.

وإذا كان هناك في مواقع التدبير من يحتفظ ببقية اهتمام باتجاهات الرأي العام واهتمامات المجتمع، فإنني ومن باب تقاسم معطى لاحظته بشكل مثير للاهتمام، أدعوه إلى محاولة فهم وتحليل حالة من الاهتمام الكبير وغير المألوف الذي أبدته جل شرائح المجتمع، بعملية الاختراق والقرصنة التي حصلت.

من المؤكد أن هناك جانب من هذا الاهتمام يفسّر بدافع الفضول، والرغبة في التلصص على الزملاء ومقارنة الوضعية الشخصية بأوضاع الأقران، ولا مجال لإنكار الطابع الاجتماعي للمؤسسة التي تعرّضت للاختراق، وكونها تدبّر مصالح مباشرة لملايين المغاربة.

لكن هناك بعد آخر يبدو لي أهم في تفسير هذا الاهتمام، وهو شعور جماعي وشبه عام، بكوننا نعيش في غرفة مظلمة كبيرة، جاء حادث الاختراق ليفتح كوّة جعلت كمية استثنائية من الضوء تتدفّق إليها.

وانطلاقا من محاولتي الشخصية، المتواضعة، في محاولة الفهم والاستيعاب، يمكنني تقاسم ملاحظاتي المتعلّقة بهذه الواقعة إلى شقّين، واحد متعلّق بالشكل وثان يهمّ المضمون.

من حيث الشكل:

لا تقنعني بتاتا سردية الأصل الجزائري لعملية الاختراق هذه. نعم هناك أكوام من الجمر النائم تحت رماد العلاقات المغربية الجزائرية، وهناك أكثر من مصلحة لدى جهات في الضفة الشرقية من معبر زوج بغال، في إلحاق الضرر بالمغرب ومؤسساته، لكن اعذروني، ما وقع يتجاوز هذا المستوى في الفهم والتفسير.

لو كانت جهات في الدولة الجزائرية العميقة هي التي خطّطت ودبّرت عملية الاختراق هذه، لما كانت لها الشجاعة ولا حتى المصلحة، في ربط نفسها بالعملية منذ أول إعلان عنها.

الاختراق الإلكتروني وضرب الأنظمة المعلوماتية للدول هو جزء من الحروب الحديثة التي لم تعد تدور بالأسلحة النارية التقليدية. ولجوء دولة ما، بشكل رسمي وعلني، إلى هذا النوع من السلاح الفتّاك، هو بمثابة إعلان للحرب، بل وانخراط فيها، ويمكن تشبيهه بإطلاق صواريخ باليستية أو مسيّرات مسلّحة أو إرسال فرق كوموندو إلى عمق تراب الدولة المستهدفة.

وانطلاقا من طبيعة السياق الحالي، وقواعد الاشتباك القائمة، وإن كانت تتغيّر، بين المغرب والجزائر، فإنني شخصيا لا أعتقد أن الجزائر تحديدا، خلافا للمغرب الذي يتمتع بهامش حركة أكبر نسبيا، تستطيع الإقدام على خطوة تصعيدية من هذا النوع…

قرار الحرب في منطقتنا يوجد خارجها، في الماضي كما الحاضر.

لهذا أميل شخصيا إلى ترجيح فرضيات أخرى، على رأسها تلك التي تستحضر احتمال أن يكون الأمر ضربة تحت الحزام من جانب أطراف صهيونية، خاصة أن الإعلان عن عملية الاختراق والشروع في نشر الوثائق، جاء مباشرة بعد مسيرة الأحد الماضي، 06 أبريل 2025، والتي بدا جليا من خلال ردود فعل بعض الأصوات المؤيدة للكيان الإسرائيلي بيننا، أنها أوجعت وأزعجت، وأنها جرت تحت أعين السلطات، بل وبشبه تنظيم من جانبها، من خلال عملية التأطير الأمني والحماية التي شملت المسيرة.

يزيد من ترجيح هذه الفرضية، نوع وطبيعة وحجم عملية القرصنة، والتي ينبغي الانتباه بشكل خاص إلى كونها عملية اختراق من الخارج، وليست عملية تسريب من الداخل. والطرف الذي قام بهذا العمل لديه قدرات خاصة ورسائل مختلفة جدا عما يمكن لجارتنا اللدود، أي الدولة الجزائرية، أن تفكر أو تسعى إلى تبليغه.

وهنا لابدّ من تقدير خطورة عملية الاختراق، وما تمثّله من تهديد كبير ووجودي، بما أن حياتنا المعاصرة باتت رقمية بامتياز.

أما من حيث المضمون:

هناك ملاحظات جوهرية لابد من تسجيلها من خلال القراءة المتفحّصة والدقيقة لجزء من الوثاق المنشورة، وهذه أبرزها:

الهوة بين الذين يملكون والذين لا يملكون تعمّقت وتجاوزت مستويات المعقول والمقبول والمنطقي. والرأسمال الخاص المغربي، الذي كنا نعرف مسبقا أنه مُحتكر ويتركّز في يد الأقلية الممارسة أو المقرّبة من السلطة، لا ينتج ثروة ولا نموا ولا قيمة مضافة، بل ينتج الفقر والهشاشة والعبودية، من خلال الفوارق التي تثير الجنون بين أجور المدبّرين وفتات الأجراء والمستخدمين؛

قطاعات حيوية واستراتيجية في البلاد، مثل قطاع المال والبنوك والمؤسسات العمومية الحيوية، خلقت ما يشبه الفرقة الناجية، من خلال الطابع العائلي والقبلي للمسؤوليات، والحجم المفرط للأجور والتعويضات الممنوحة لبعض “أولاد الفشوش”، وتوزيع هذا “الريع” بعيدا عن منطق الكفاءة والاستحقاق، ما يعني أن الإقلاع الاقتصادي والتنموي مستحيل؛

الصحافة في المغرب تعيش البؤس والحكرة ولا يمكنها أن تحاول، مجرد المحاولة، لعب دور السلطة الرابعة أو القيام بمساءلة ومراقبة مراكز القوة والنفوذ. للا زينة وزادها زين الحمّام، والمقصود هنا أن الدعم العمومي ساهم وبشكل كبير في تسريع وتيرة الانحطاط والفساد في هذا المجال.

كصحافي مارس لما يقارب 20 عاما، يمكنني القول إن الصحافة تعيش أحلك أيامها على الإطلاق، من خلال مؤشر جديد أكدته التسريبات، وهو تحويل الصحافي إلى أضعف حلقة في سلسلة إنتاج المادة الصحافية، وإخضاعه لأسوأ صور التمييز والحكرة والامتهان؛

ومن بين أكثر الملاحظات إثارة للانتباه في الوثائق المسرّبة، تلك التناقضات التي تعبّر بشكل واضح عن واقع الحال.

تصوّروا أن شركة متخصصة في الوساطة في مجال التشغيل، أي أنها تساعد العاطلين على العثور على فرصة شغل، تمنح مستخدميها أجورا لا تبتعد كثيرا عن عتبة السميك. وجلّ شركات الأمن الخاص والحراسة والزمن الرقمي، توزّع رواتب هي أقرب إلى الصدقات بله أن تحقّق الحدّ الأدنى من الأمن الاجتماعي، علما أن مستخدميها يعملون لساعات طويلة وفي ظروف قاسية.

هذا ما يظهر، والله يحفظ مما خفي!


يونس مسكين | كاتب صحفي مغربي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل