
كانت الطائرة الأولى التي أقلتنا من مطار اسطنبول إلى دمشق، بعد انتصار الثورة السورية، بالنسبة لي عبارة عن تجلٍ واضح من تجليات استعادة الهوية السورية، فقد حرص الركاب من أول دخول لهم صالة المغادرين على حمل الأعلام السورية الجديدة الخضراء، كإعلان واضح عن قطع العلاقة لكل ما يمتُّ بصلة إلى سوريا التي جعلها حكم الأسدين حكراً للعائلة، فرفع شعاره سوريا الأسد، رافق حمل الأعلام الهتافات الثورية، واستعادة سوريا لأهلها، وتواصلت معها الهتافات المختلطة بمشاعر الفرح والدموع على متن الطائرة، ليصل الأمر ذروته حين أعلن الطيار عن الهبوط في مطار دمشق الدولي.. سيدة بجانبي وأمثالها كثر كانت الدموع تجري جرياناً من عيونها، وهي التي حُرمت دخول البلد لفترة طويلة.. كان البعض قد حُرمه لأربعة عقود وبعضهم أقل، لكن الكل كان مجمعاً على أنه يعود إلى سوريا الحقيقية، سوريا التي أحبها من داخله، ولكن كان كل شيء فيها أيام الحكم البائد يجعله ينفر منها. استقبالات الأحبة للعائدين الجدد في المطار، كانت تحكي قصة أخرى عن ألم الفراق، وروعة العودة واللقاء، ومعه إصرار الجميع على فرض وواجب بناء سوريا الجديدة بأيدي أبنائها، أما على أرض الواقع، فثوار الشام، سبقوا الجميع يوم قطعوا الصلة بالعهد البائد، قطعوه بدمائهم التي أراقوها على ثراه، وبهجرتهم من مناطقه المحتلة، فرفعوا كل ما يمت إلى العهد السابق علناً دون وجل أو خوف، من قتال للعصابة البائدة، وتمزيق كل رموزها في المدن الرئيسة التي حرروها، ولا أنسى يوم أصرّ الثوار على غسل ساحة سعد الله الجابري وساحة العاصي بالماء، وكأنه إشارة واضحة ودلالة عظيمة على كنس وشطف وغسل كل تلك الحقبة الأسدية التي جمّدت تاريخ سوريا، بل وأعادتها للوراء.
* عودة الكفاءات السورية إلى دمشق، وإصرار من وراءهم على العودة، يشير بشكل واضح وجلي على عزم الجميع بناء سوريا التي حلُم بها أول ثائر انتفض ضد الظلم الأسدي ليس في انتفاضة 2011 فقط وإنما منذ الستينيات في مسجد السلطان بحماة أو الأموي في دمشق، أو في ساحات التظاهر في حلب وإدلب والتي هتفت منذ عام 1980، لا إله إلاّ الله والأسد عدو الله.
تعود سوريا اليوم إلى أهلها، ويعود أهلُها إليها بعد أن هُجروا عنها طوال عقود، فجعلهم طوال تلك الفترة حكم الأسد المؤسس أنهم محبوسون في قفص يدعى المادة الثامنة للدستور، والتي نصت على أن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع، ولكن بانتصار الثورة السورية المباركة وإعلان وقف العمل بالدستور كله، ثم بدعوة أطياف الشعب السوري على مستوى المحافظات السورية، ودعوة ممثلين عنه في مؤتمر الحوار الوطني، استعادت سوريا والسوريون دورهم من جديد في رسم خريطة طريق لهم، فكان أن خرج الإعلان الدستوري، وتم تشكيل الحكومة، واستكمل بناء المؤسسات، لتنطلق عجلة الحركة السياسية نحو الخارج والاقتصادية باتجاه الخارج والداخل، ومعها الحركة التنموية التي لن تتوقف بإذن الله بدعم الأشقاء وقبله بدعم أبناء سوريا البررة حتى نستعيد بناء سوريا التي حلمنا بها جميعاً.
* حين تتجول في المحافظات السورية، تلمس البناء والعمل على مدار الساعة، وذلك من درعا ودمشق إلى حلب والجزيرة وما بينهما، فكان لانسحاب قوات قسد من سد تشرين وكذلك من حقول النفط والغاز في الشرقية، إشارة واضحة لاستعادة الدولة مؤسساتها، وكذلك مواردها، مما سيعود بالنفع والفائدة بإذن الله على السوريين، وقبله استعادة المناطق السورية الشرقية التي عانت الظلم البائد والكثير من النظام وقسد وداعش.
إعلان الدولة السورية عن إزالة كل ما يرمز للعهد البائد، وإطلاق عجلة تنظيف الشوارع والبنايات في كل المدن السورية، مما يعكر الهوية البصرية ويشوشها، المتضمنة لصور العهد البائد وعلمه وما يرمز له، سيُعزز الهوية السورية الجديدة، خصوصاً بعد أن أولت الحكومة اهتمامها بالمسجد الأموي لرمزيته ليس على المستوى السوري فقط وإنما على المستوى العالمي والإسلامي تحديداً.
* اليوم كل سوري تلتقيه في المدن السورية، يشعر أن الوطن قد عاد إليه، ويشعر بقيمته، بعد أن كان كل سوري يرى أنه بلا سقف وبلا جدران وبلا حائط لهذا الوطن الذي فرضت عليه هويته وشكله وقادته، فقد غدا لآخرين، أما السوري في الخارج فأصبح عارياً لا أحد يستره قانونياً، ولذا رأينا تغير النظرة الجوارية والاقليمية والعالمية، تجاه السوريين مع أول سقوط للنظام البائد، واستعادته لحريته، مع قدرته على العودة إليه.
عاد الوطن لأهله، وعاد الأهل لوطنهم، عادوا ليتجولوا جميعهم من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، كل هذا بفضل من رحل وضحى لنحيا نحن، وبفضل من تمسك أيضاً بخيار الراحلين حتى تمكن من تنفيذ وصيتهم بتحرير سوريا، وإعادتها إلى أهلها، لنرسم جميعاً مستقبل سوريا، وهوية سوريا الحقيقية عائدة للسوريين، ولحضنها العربي الذي لطالما مارس النظام البائد ابتزازات عربية لمجرد البقاء في صفهم، وكأن بقاءه مع العرب له ثمن ينبغي دفعه له.