
هناك استراتيجية تتبعها الإمبريالية الغربية، ورأس حربتها (الكيان الصهيوني) في المنطقة العربية، وهي تقسيم المُقسم، لضمان منع إقامة أي مشروع وحدوي عربي، يحول بينها وبين أطماعها في المنطقة.
والعمل وفق هذه الاستراتيجية لا يقف عند حد معين أو نتيجة معينة، بل هو عملية انشطارية تتجه لتقسيم كل ما يمكن تقسيمه، فتقسِّم المُقسم، ثم تتجه لتقسيم ما تم تقسيمه من المُقسم، وهكذا، حتى تغدو الدول العربية وحدات سياسية صغيرة ضعيفة متنازعة لا تملك من أمرها شيئا.
بدأ التقسيم الأكبر مع سايكس بيكو، التي تم بموجبها تقسيم الأمة إلى دول وفقا لأطماع الدول الكبرى، التي اخترعت للعرب مسوغات حضارية وإقليمية، بالتوازي مع تغذية النعرات القومية والإثنية والطائفية، حتى رأينا العديد من الدول العربية تتهددها النزعات الانفصالية في الداخل.
بعد هذا التقسيم دخلت الإمبريالية والصهيونية في مرحلة تقسيم هذا الجسد العربي المُقسم، فعملت على تقسيم الدولة الواحدة، وقد نجحت في ذلك مع عدة دول وقسمتها بشكل غير رسمي، وأعني تقسيم النفوذ، كما هو الحال في اليمن الذي صار النفوذ فيه مقسما بين الحكومة المعترف بها دوليا، وجماعة الحوثي، والمجلس الانتقالي الجنوبي والقوات المشتركة.
وكما هو الحال في ليبيا التي تتنافس فيه حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليا ومقرها طرابلس، وحكومة الاستقرار المدعومة من مجلس النواب والمتمركزة في الشرق الليبي.
لكن أظهر مثال على تقسيم المُقسم بشكل كامل ورسمي، هو السودان، ذلك البلد الذي تم تقسيمه فصارت هناك دولة السودان وعاصمتها الخرطوم، ودولة جنوب السودان وعاصمتها جوبا، حين انفصل الجنوب عام 2011 وصار دولة معترفا بها دوليا. وللقارئ أن يتحدث كيفما شاء عن دور أطياف الدولة وقياداتها والتفاعلات الإقليمية في هذا التقسيم، وهذا حقيقي لكنه يقوم مقام الأداة، إذ إن هناك أطرافا خارجية استغلت هذه الأوراق لصالحها وتقسيم دولة السودان. فهناك اعتراف متبادل من جانب الإسرائيليين وحكومة جنوب السودان أيضا، بأن الكيان الصهيوني كان سببا رئيسيا في تحقيق هذا الانفصال، وقد عبّر مائير داغان الرئيس الأسبق للموساد الإسرائيلي، خلال حفل تقاعده عن فخره بانفصال السودان، من خلال جهود استخباراتية إسرائيلية مكثفة منذ عام 1956، مبينا كيف استغلت دولة الاحتلال العوامل المفرقة بين الشمال والجنوب في السودان، لتمزيق تلك الدولة التي لها مواقف عدائية تجاه إسرائيل، وتمثل في الوقت نفسه عمقا استراتيجيا لمصر، التي اعتبرها العدو الأول لبلاده.
بدوره، اعترف رئيس جنوب السودان سيلفا كير، خلال استقباله في تل أبيب بعد الانفصال، بأن إسرائيل وقفت إلى جانبهم طوال الوقت، وأنه لولاها لما قامت للجنوب قائمة، علما بأن الكيان الإسرائيلي كان من أوائل الدول التي اعترفت بجنوب السودان، إضافة إلى دعمه بشحنات الأسلحة والمعدات العسكرية. استراتيجية تقسيم المقسم لم تغلق في السودان عند هذا الفصل، فهناك مخطط جديد لتقسيم السودان الذي انفصل جنوبه، وهو ما أشار إليه الرئيس السوداني السابق عمر البشير في إحدى المقابلات الصحافية، عندما صرح بأن هناك مخططا لتقسيم السودان إلى خمس دول: جنوب السودان، دارفور، شرق السودان، كردفان، ووسط السودان.
وربما شكك البعض في كلام البشير، واعتبره تصريحات من رئيس دولة لاغراض سياسية، ولكن ماذا عما يحدث الآن في السودان من صراع وحرب ضروس، فاقمت من معاناة الشعب السوداني، وقتل فيه عشرات الآلاف وهُجر منه الملايين.
الحرب التي تدور بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لا يُراد لها أن تنتهي، وتغذي كلا من أطراف النزاع جهات خارجية لها أجنداتها داخل السودان، بما يؤكد القول إن السودان، أو ما بقي منه، يتجه مرة أخرى صوب التقسيم. مع الأسف الشديد، الصراع في السودان واضح، هناك جيش وطني مقابل ميلشيات تعمل في الشعب السوداني قتلا وتشريدا واغتصابا ونهبا، ومع ذلك لم تتفق كلمة الدول العربية حول هذا النزاع، بل تتقاذفهم رؤى مستقبلية حول من يحكم السودان ومدى انسجام حكامه الجدد مع سياساتهم، فغلبت هذه النظرة المستقبلية على التعامل مع الحرب في السودان والنتائج الكارثية التي آلت إليها الحرب.
السودان ضربته المجاعة، ودُمرت نسبة كبيرة من بناه التحتية، والحديث عن إعادة بناء السودان بعد توقف الحرب أصبح أمرا مرعبا، نظرا لحجم الدمار الذي لحق بذلك البلد الكبير. السودان تحول إلى مسرح صراع النفوذ وتحقيق الأطماع الخارجية، فهناك أطماع أمريكية أوروبية روسية صينية إسرائيلية في ثروات السودان، فالولايات المتحدة تعمل على مواجهة النفوذ الروسي الصيني والروسي في السودان، والسيطرة على ثرواته، ودول أوروبا التي كانت تحتل العديد من الدول الافريقية وتنهب ثرواتها، يعنيها الدخول عبر بوابة السودان إلى استعادة إرثها الاستعماري في افريقيا بشكل أو بآخر، وروسيا بدورها لها حضور قوي في افريقيا في الميادين السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، ولها وجودها العسكري من خلال شركة فاغنر، ولا يخفى أن الذهب السوداني هو أكثر ما تطمح إليه روسيا. الصين كذلك دخلت اقتصاديا في القارة السمراء بقوة، وتبحث عن تنامي نفوذها والقيام بلعب دور أكثر حيوية، بإنشاء قواعد وموانئ لها في تلك المنطقة، كما أن لحكومة الاحتلال الإسرائيلي أطماعها في دول أبناء النيل والهيمنة على افريقيا، والسيطرة على العمق الاستراتيجي لمصر.
علامات استفهامات كثيرة تذيل الحديث عن الحرب الدائرة، التي لا يراد لها أن تنتهي، وتحديدا حول موقف الدول العربية، التي لم تتخذ قرارا موحدا حاسما لحل الأزمة، وهي تعلم يقينا أن تقسيم المقسم من السودان، سوف يكون وبالا على المنطقة العربية، وعلى مصر على وجه الخصوص، التي أصبحت مهددة في أمنها القومي من جهة ليبيا، ومن جهة فلسطين، ومن جهة منابع النيل، التي قفز عليها الإسرائيليون بنفوذهم في افريقيا، ومن جهة السودان الذي يمثل عمقه الاستراتيجي. وعلى الرغم من التقارب بين مصر والجيش السوداني، والدعم المصري الذي ثمّنه البرهان، إلا أن ذلك الدعم لا يكفي لحسم هذا النزاع، إضافة إلى أن الجهود الدبلوماسية الدولية لم تقدم أو تؤخر شيئا، إذ تقتصر في معظمها على توصيف للواقع، ودعوات عقيمة للتهدئة، ونحو ذلك مما عرف في مواقف المجتمع الدولي تجاه قضايا أمتنا عندما لا يريد حسمها.
على الدول العربية قبل أن تفكر فيمن يحكم السودان مستقبلا، أن تنظر إلى هذه الكارثة الآنية، وتنتشل الشعب السوداني من براثن الحرب، وتمنع تقسيم السودان مرة أخرى، فسواء آل حكم السودان إلى العسكر، أو إلى قوى مدنية، المهم أن يتحقق الاستقرار لهذا البلد المنكوب الذي كان يمثل سلة غذاء العالم، فالنتيجة الطبيعية لتقسيمه مجددا هو السيطرة الصهيونية الغربية على السودان، ويترتب عليه تهديد مصر وإنفاذ مخطط تقسيمها إلى دويلات، وهذا أمر كارثي للأمة بأسرها سوف يطال الجميع، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.