
بعد توالي مواقف المؤسسات الدستورية حول مشروع قانون المسطرة الجنائية، لم يعد الأمر مجرّد خلاف عابر في تأويل نص قانوني أو اجتهاد بين سلطة تنفيذية وسلطة تقنين، بل صار أمامنا اليوم ما يمكن اعتباره حالة سياسية ودستورية فريدة، تضع الحكومة في حالة تلبّس واضح بفقدان المصداقية ومواجهة إجماع مؤسساتي صلب ومتعدد، يرفض بوضوح محاولتها تفريغ المنظومة القانونية الجنائية من فعاليتها في التصدي للفساد.
المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وقبله الهيئة المركزية للنزاهة والوقاية من الرشوة، وبعدهما الآن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ثلاث مؤسسات دستورية بمكانة اعتبارية واختصاصات متنوعة، أجمعت على أمر واحد: المادتان 3 و7 من مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد لا تصحان ولا تجوزان شرعا ومنطقا.
بل إن المادتين بنصّيهما الحاليين، تمثلان تراجعا صريحا عن جوهر الفصل 1 من الدستور، الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة، وعن الفصل 12 الذي يعترف بدور المجتمع المدني في التبليغ، وعن الفصل 118 الذي يضمن حق المواطنين في الولوج للعدالة.
لنضع الأمور في سياقها الكامل: الحكومة الحالية، بدل أن تعزّز جبهة التصدي للفساد، لجأت إلى إغلاق المنافذ القانونية أمام الجمعيات المشتغلة في هذا المجال، وفرضت عليها شروطا تعجيزية للتقاضي في مشروع قانون المسطرة الجنائية، كما قيّدت سلطة النيابة العامة في مباشرة الأبحاث والمتابعات، وجعلت ذلك رهينا بإحالات مسبقة من أجهزة أخرى جلّها خاضع لأمر السلطة التنفيذية.
فما الذي يعنيه أن تتعاقب ثلاث مؤسسات دستورية، وتحمل كل واحدة منها على عاتقها تقديم توصيات صريحة تطالب بإلغاء هذه القيود؟
ما الذي يعنيه أن تصبح هذه التوصيات شبه متطابقة، رغم اختلاف الخلفيات المؤسسية والسياسية لرؤساء هذه الهيئات، بل وحتى بعد تغيير وتجديد القائمين على هذه المؤسسات بضغط واضح من الحكومة؟
إنه ملتمس رقابة جماعي، لا يحتاج إلى تصويت في البرلمان، لأنه صادر من المؤسسات التي جعل منها الدستور ضميرا مؤسسيا للبلاد، ومنحها صلاحية الرصد والتقييم.
لنترك التوصيات التي تضمّنها تقرير الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة في عهد رئيسها السابق، المناضل محمد البشير الراشدي، والتي شكّكت في دستورية المادة 3 التي تغلق منافذ التبليغ عن الفساد وتحريك المتابعات ضد المشتبه فيهم بارتكابه؛ ولننصت إلى رئيسها الجديد، محمد بنعليلو، الذي كان قبل يومين فقط يتحدّث أمام لجنة العدل والتشريع في مجلس النواب حول هذا الموضوع.
الرئيس الجديد للهيئة، ردّد المواقف نفسها، لكن بلغة القاضي ووسيط المملكة السابق، وقال إن الهيئة تعتبر أن الحفاظ على سلطة النيابة العامة في إجراء الأبحاث وتحريك المتابعة في جرائم الفساد أمرا جوهريا في دينامية محاربة الفساد، وبالتالي ترفض صيغة التعديل التي وردت بها المادة الثالثة لكونها تحصر نطاق إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في الجرائم الماسة بالمال العام، في الطلب المقدم من طرف الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها وإحالة كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك.
كما ذكّر بنعليلو بكون الهيئة ترفض التعديلات التي جاءت بها المادة السابعة، والرامية إلى اشتراط حصول الجمعيات المعترف لها بصفة المنفعة العامة على إذن بالتقاضي من وزارة العدل، مشددا على أن النص الحالي لهذه المادة لا يستدعي أي تعديل، وأن ما جاء به المشروع الحكومي لا يستند على مبررات قوية داعمة له، وبالتالي ترى الهيئة أن هذا المقتضى سيشكل تضييقا “غير مستساغ” على حق الجمعيات الجادة في الانتصاب كطرف مدني، ولو لمجرد مظنة اعتبار الإذن المطلوب قد يخضع لتقديرات غير قضائية يتولاها جهاز تنفيذي.
واليوم نحن أمام تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، والذي بلغ درجة غير مسبوقة من الجرأة والمهنية، ولم يكتف بإعادة التأكيد على رفضه لقيود التقاضي المفروضة على الجمعيات، بل توسّع ليطرح رؤية متكاملة لمفهوم العدالة الجنائية في المغرب، تقوم على التوازن بين الدولة والفرد، وعلى تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، وعلى تمكين الفئات الهشة من الانتصاف.
توصيات المجلس، بعد تجديد الثقة في رئيسته أمينة بوعياش، تكرّس مبدأ أن النيابة العامة ليست أداة تنفيذية في يد الدولة، بل سلطة مستقلة في خدمة القانون، وأن الجمعيات المدنية ليست تهديدا للنظام العام، بل شريكا دستوريا في حماية المال العام والحقوق الجماعية.
ومن اللافت أن مذكرة المجلس، مثلما فعل من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، قدّمت بدائل دقيقة وواقعية: إلغاء شرط إذن التقاضي، اعتماد معيار التخصص بدل صفة المنفعة العامة، منح النيابة العامة صلاحية التحرك تلقائيًا في قضايا الفساد، وإلغاء التمييز في أهلية الجمعيات بمجرد استيفائها شروط التأسيس القانوني.
وهنا نبلغ جوهر الأزمة: حكومة تصر على تمرير مقتضيات تسلب المجتمع أدواته، وتخنق دور المؤسسات القضائية، مقابل مؤسسات دستورية تُجمع على ضرورة تعزيز أدوار المجتمع والقضاء في مواجهة الفساد.
فهل يمكن بعد هذا أن نتحدث عن مشروعية سياسية لما تسعى إليه الحكومة؟
حتى في حال اختارت الحكومة سحب هذه المقتضيات في اللحظة الأخيرة، فإنها تكون قد فقدت ثقة الهيئات التي أقام لها الدستور وزنا خاصا ضمن البنية المؤسساتية المغربية.
وإذا مضت في تمرير المشروع، فإنها تكون قد وضعت نفسها خارج الوفاق المؤسساتي، بل وربما في مواجهة مباشرة مع روح الدستور الذي يقر التشاركية والتوازن ويمنح مؤسسات الحكامة دور الحَكم الموضوعي.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط تعديل مشروع قانون معيب، بل إعادة الاعتبار لدور المؤسسات الوسيطة والرقابية، وضمان ألا يتحوّل النص القانوني إلى غطاء لإسكات الأصوات أو تقييد الفاعلين المدنيين.
قد يظن البعض أن هذه معركة قانون، لكنها في حقيقتها معركة مشروع مجتمعي: هل نريد دولة تُديرها المؤسسات وتُراقبها القواعد القانونية؟ أم نعيد أنفسنا إلى مربع القرار الأحادي و”السلطة الأبوية” التي تمنح وتمنع؟
إن الصمت أمام هذا الإجماع المؤسساتي، هو إعلان موت بطيء لما تبقى من جدية في الحلم الديمقراطي المغربي.
والسؤال الأخير الذي يجب أن يُوجَّه اليوم لكل مسؤول يدافع عن هذه المواد في البرلمان هو: أي شرعية قانونية أو أخلاقية تبقى لحكومة تعارض، في مشروع قانون يُفترض أنه يطوّر العدالة، توصيات كل مؤسسات العدالة الدستورية في البلاد؟