إكرام الجامعة دفنها

وائل قنديل13 يونيو 2025
وائل قنديل

ثمّة مجموعة من الأكاذيب الفجّة تتعلّق بالحرب الإلكترونية المُشتعلة على مواقع التواصل العربية حول من يخلف السيد أحمد أبو الغيط في إدارة “دار المناسبات” التي تأسّست في العام 1945 بالقاهرة تحت اسم جامعة الدول العربية.

تغيب عن المُشتبكين في هذا الصراع المبكّر على وظيفة إدارية سوف تكون شاغرة في شتاء العام القادم مجموعة من المُعطيات، أوّلها أنّه لم يبق هنالك ما يتطلّب استمرار وجود مظلّةٍ مؤسّسيةٍ يجتمع فيها الحكام العرب، بالنظر إلى أنه لم يعد هنالك ما يُمكن وصفه بعمل عربي مشترك، أو مشروع موحّد يمكن أن تلتقي فيه الدول العربية على موقفٍ موحد، ذلك أنّ العرب لم يعودوا طرفاً في مشكلات وقضايا ذلك الإقليم الشرق أوسطي الذي باتت قوى دولية، الولايات المتحدة تحديداً، صاحبة الأمر والنهي فيه.

ليس من قبيل المبالغات القول إنّ العرب ارتضوا الخروج من تاريخ المنطقة طواعية، مُذعنين لما يُراد بها وبهم، ومن ثم ما الحاجة لاستمرار وجود كيان سياسي جامع لهم من الأصل، خصوصاً أنّ الخيط الناظم، أو المحور الذي تأسّست من أجله جامعة الدول العربية في بداياتها، لم يعدْ محلّ إجماع عربي، وهو قضية فلسطين، التي ارتبط إنشاء الجامعة بها، انطلاقاً من أنّ الدول العربية كانت تجتمع على هدف واحد وحيد، طرد عصابات الاستعمار الاستيطاني منها، وكذا رصّ الصفوف وتوحيد الجهود من أجل الاستقلال عن الاستعمار القديم الجاثم على صدر الأمة العربية.

أما وأن كلّ هذه الغايات والمعاني لم تعد تشغل ما يسمّى النظام العربي، فما الضرورة للحفاظ على مظلّة جامعة لفرقاء صاروا يفضّلون التعامل مع القيّمين على المنطقة بشكل فردي، ويهرولون، كذلك، فردياً في الخفاء لمدّ الجسور مع العدو الذي تأسّست الجامعة لمناهضته قبل 80 عاماً؟ لماذا يتصارع العرب، إذن، على قيادة كيانٍ ميتٍ أو سفينة محترقة حدّ التفحم، إن ثبت أنّ تراشقات الكُتّاب السعوديين والمصريين بشأن جنسية الأمين العام ومقرّ الجامعة تعبّر عن رسائل رسمية صامتة؟

أغلب الظن أننا بصدد نهاية زمن جامعة الدول العربية، وتشييعها إلى مثواها الأخير، وخصوصاً أن الإطار الناظم للجميع الآن صار هناك في واشنطن، ليس فقط بالتعبير المجازي عن نفوذ دونالد ترامب، بل هناك مشروع أميركي بديل، طُرح في نهاية رئاسة ترامب الأولى، وبداية رئاسة جو بايدن اليتيمة، إذ وصل إلى إدارة بايدن في العام 2021 مقترحً ينقل إسرائيل إلى كابينة قيادة السياسة العربية، ويدقّ المسمار الأخير في نعش كيان هزيل ومريض اسمه جامعة الدول العربية، حيث تلقت إدارة بايدن دراسة وافية عن مشروع إقامة كيان شرق أوسطي جامع، يضم إسرائيل والدول العربية، تحت المظلّة الأميركية، وهو المشروع المقترح من كل من: روبرت دانين، وهو باحث بمشروع مستقبل الدبلوماسية في مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية، التابع لمدرسة كيندي في جامعة هارفارد، وأيضاً مسؤول سابق بوزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي الأميركي.. وماهسا روهي الباحثة بمعهد الدراسات الاستراتيجية التابع لجامعة الدفاع القومي الأميركي.

في ذلك الوقت، أوضح تقرير نشره الباحثان المذكوران في مجلة ناشونال إنتريست الأميركية أن ما هو مطلوب للغاية للتعامل مع القضايا في الشرق الأوسط منتدى إقليمي دائم شامل واسع النطاق، يضم كلّ دوله في مكان واحد، ويختلف عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أنه يمكن أن يكون محوراً داخل الشرق الأوسط، لمواجهة قضايا المنطقة، على أن يُعقد هذا المنتدى الخاص بالشرق الأوسط تحت إشراف شخصيةٍ دوليةٍ تحظى بالاحترام، مثل أمين عام الأمم المتحدة أو من يقوم بتعيينه، ويرحّب بمشاركة جميع دول المنطقة، من دون اشتراط الاعتراف أو العلاقات المباشرة بين أعضائه، ومن ثم، من الوارد أن تجتمع إيران والسعودية، وسورية وإسرائيل على مائدة واحدة.

يمكن اعتبار اختيار أحمد أبو الغيط لوظيفة أمين عام الجامعة، من دون ممانعة من كلّ الدول العربية، للمرة الأولى في 10 مارس/ آذار 2016، ثم التجديد له دورة أخرى، بداية الحفر تحت هذا البناء العربي المتصدّع، تمهيداً لدخول الزمن الشرق أوسطي، الذي يصبح فيه الكيان الصهيوني الجار، والصديق والحليف لبعضهم، إذ كان أوّل ما فعلته الجامعة بعد اختيار أبو الغيط أن قرّر مجلسها، في ختام أعمال دورته الـ145 على مستوى وزراء الخارجية العرب بالقاهرة، اعتبار حزب الله اللبناني “منظمّة إرهابية”.

لقد تعرّض موقع أمين الجامعة للخدش، حين ارتضى بعضهم الحصول على مكافأة نهاية خدمة خاصة، بعيداً عن لوائح الجامعة وقوانينها، من دولة عربية بعينها، مرّة خمسة ملايين دولار والثانية مليونا دولار، ما جعل المنصب أشبه بوظيفة إدارة قاعة مناسبات، مآتم وأعراساً، وفي ذلك إهانة وابتذال للمؤسّسة ذاتها، التي يبدو أنهم توافقوا على دفنها، بعد تكريمها، مرّة ثالثة، وربما أخيرة في مارس/ آذار المقبل.


وائل قنديل | صحافي وكاتب مصري
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل