كاينابريس – د. نايف بن نهار(*)
يقول السائل: كيف نقول إن الله عدل والظلم موجود؟ الحكام الذين يقتلون شعوبهم أين عدالة الله فيهم؟
قبل أن نختلف حول مسألة الحكم لابد أن نتفق على مسألة التصوّر حتى ينشأ الحكم صحيحاً، فما معنى العدالة أولاً؟
العدالة: هي إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، فليس عدلاً أن يُحرم الشخص من الحق الذي يستحقه، كما أن إعطاء شخص شيئاً لا يستحقه ليس عدلاً كذلك.
فإذا كنتَ مديراً لمدرسة، وكان لديك موظف يحرص على أداء واجباته على أكمل وجه، فمن غير العدالة ألا تمنحه حقوقه المادية والمعنوية، ولو كان لديك موظف لا يؤدي واجباته فإنك تكون غير عادل إن أعطيته حقوقه قبل أدائه واجباته.
هذا في ما يتعلق بالعدالة في إطار المخلوق الفاني، أما العدالة المرتبطة بالذات الإلهية فهي تسير على المنطق نفسه لكن مع ملاحظة أمر مختلف، وهو أنَّه في حالة المخلوق نجد أن إعطاء الحق أو منعه مرتبط بالحياة الدنيا فقط، فإذا لم يعطِ الحق أو إذا منعه في الدنيا فهو ظالم. في حين الحق فيما يتعلق بالله سبحانه مرحلته المكانية غير مرتبطة بالدنيا فقط، فقد يأخذ المخلوق المستحق حقَّه في الآخرة لا في الدنيا، وقد يأخذهما في المحلّين معاً، وللنظر مثلاً إلى حادثة عائلة آل ياسر رضي الله عنهم حين كانوا يُعذبون ظلماً حتى استشهدوا تحت التعذيب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهم قائلاً “صبراً آل ياسر، فإنَّ موعدكم الجنّة”.
هنا لنا أن نسأل: هل كان الله تعالى غير عادل مع عائلة آل ياسر؟ ألم يكونوا يستحقون حياةً أفضل لكونهم قد فعلوا مقدمات استحقاق ذلك وهو الإيمان بالله والصبر على الأذى في سبيله؟
حسناً، دعنا نعود إلى تعريف العدالة، حيث ذكرنا سابقاً أنَّ العدالة: هي إعطاء كل ذي حقٍّ حقه، وبناءً على هذا التعريف نقول إن الحق الذي يستحقه آل ياسر هو الثواب، ولو كان المثيب مخلوقاً لكان واجباً أن يكون الثواب في الدنيا؛ لأن المخلوق لا يملك إلا في هذه الدنيا(1)، لكن لما كان المثيب هو الله تعالى الذي يملك الدنيا والآخرة فإنَّ إعطاء الثواب ليس مرتبطاً مكانياً بالدنيا، فقد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائلة آل ياسر أنَّ مكان استحقاقكم الثواب ليس في الدنيا، وإنما في الآخرة (فإنّ موعدكم الجنة). فعدم عدالة المخلوق مرتبطة بعدم إعطائه الثواب في الدنيا، أما عدم العدالة في حق الخالق فهي ألا يعطيك الثواب لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلو لم يجد آل ياسر ثواباً في الآخرة لكان هذا عدم عدل من الله تعالى، ونحن نجزم أنه غير حاصل؛ لأنَّ تعالى حرَّم الظلم على نفسه كما حرَّمه على خلقه.
في الجهة المقابلة، هناك أشخاص في الدنيا يتمتعون بكل المحاسن والنعم وهم أشدُّ عبادِ الله ظلماً وبطشاً، فهل هذا غير عدل كذلك؟
نحتاج هنا أن نعكس المنطق السابق، أي أنه لو كان هناك مواطن يظلم بقية المواطنين فإنَّ الحاكم إذا لم يعاقبه في هذه الدنيا يكون ظالماً غيرَ عادل، لماذا؟ لأن الحاكم لا يملك إلا الدنيا، فإذا لم يعاقب في الإطار الذي يملكه يكون ظالماً، بينما الله تعالى يملك الدنيا والآخرة، وهو غير مقيّد بالإطار المكاني الدنيوي، فإذا لم يعاقب الله الظالمين في الدنيا فهو معاقبهم في الآخرة، ولن يغفر الله لأحدٍ من الظالمين إلا إذا اقتص للمظلومين منه.
إذن الذي يقول إنه لا يرى عدالة الله في الدنيا كأنَّه يعتقد أن الله لا يملك إلا الدنيا، فإذا لم تتحقق العدالة فيها يكون الله غير عادل، أما إذا كنا نؤمن بأنّ لله الدنيا والآخرة فالسؤال أصلاً يكون غير منطقي؛ لأنَّ سلطان الله تعالى ليس مرتبطاً بالسقف الدنيوي، فكيف نريد بعد ذلك أن نقيّد أحكامه بالدنيا فقط؟
إذا اتفقنا على هذا المدلول لمفهوم العدالة، لنا أن نسأل أين عدم العدالة في الفعل الإلهي؟ هل أعطى الله مخلوقاً شيئاً لا يستحقه أو منع مخلوقاً شيئاً يستحقه؟
(*) كاتب وأكاديمي، مدير مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة قطر.
(1) هذا في علم المنطق من قبيل القياس الاستثنائي، متى ما سُلّم نقيض التالي سُلّم نقيض المقدَّم.