كاينابريس – أحمد رمضان(*)
بعد أكثر من 30 ألف شهيد ومفقود، يُصرُّ متحدث الخارجية الأمريكية على أنَّ ما يجري ليس إبادة جماعية، وربما يندرج ضمن مفهوم “الدفاع عن النفس” الذي فوَّضه الغرب لنتنياهو كي يُدمِّر 85٪ من عمران غزة، ويقتل 109 صحفيين، و300 كادر طبي، ومئات المشافي والمدارس والمساجد، ويُهجِّر 1.9 مليون (83٪ من سكان القطاع)، ويمنع إدانته، ويطارد خصومه، ويُسخِّر إعلامه للدفاع عن جرائمه، ويحجب الحقيقة عن العالم، ويريد قتلاً بلا صورة أو توثيق!
ما فعلته إدارة بايدن ليس قصف غزة وتدميرها عبر قاتل موتور، بل إنَّها ألقت ما يُشبه قنبلة نووية على العقل العربي فأيقظته من سُباته، وجعلته ينتفض بعد طولِ غفوة، ويُدرك أن كثيراً من شعارات العالم وقوانينه ونظمه ليست سوى خدع مُسكِّنة، وأنَّ البشر ليسوا متساوين، وأن غزَّة أدنى من محمية طبيعية، وأهلَها لا حقَّ لهم في حياة كريمة، وقتلهم ليس إبادة، وتهجيرهم ليس منكراً، وذبح أطفالهم مُبرر، وتدمير عُمرانهم مغفور!
لقد دعمت إدارة بايدن تل أبيب دون حدود أو شروط، إلا أنها تعتبر أن نجاحها في غزة لم يعد وارداً، واستمرارها يعني مزيداً من الانزلاق في مستنقع عميق، وعليها أن تبحث عن مخرج بأسرع وقت
لم يفلح نتنياهو في حسم معركة غزة بعد أكثر من 100 يوم، لكنه أفرغَ حقده قتلاً في الإنسان وتدميراً في العمران، وإذ أوشكتْ هزيمتُه أن تنكشف، يهرب سعياً لحربٍ أخرى تُكسبه زمناً آخر، بعد أن نبذه أغلبُ قومه ويسعون لإيقاعه. كانَ مفترساً فحوَّلته غزة إلى ذئب جريح يتخبط، كلما أشعل فتيل أزمة ارتدَّ إلى كيانه وزاد من أزماته، ويريدُ للإسرائيليين أن ينسَوا أنهم أهدروا 60 مليار دولار في حربهم على غزة دون أن يستعيدوا كرامة مُسحت بالأرض، أو أمناً تفكك، وردعاً أُهدر، وثقة تبخَّرت وتلاشت.
لقد دعمت إدارة بايدن تل أبيب دون حدود أو شروط، إلا أنها تعتبر أن نجاحها في غزة لم يعد وارداً، واستمرارها يعني مزيداً من الانزلاق في مستنقع عميق، وعليها أن تبحث عن مخرج بأسرع وقت، ولجوء نتنياهو لتوسيع الحرب قد يسفر عن كارثة تفجِّر الشرق الأوسط وتخلط الأوراق وتخدم روسيا والصين، واستمرار الحرب على غزة والقتل الهمجي للمدنيين، سيؤدي لغضبِ قطاعات من الرأي العام الأمريكي، وينعكس سلباً على فرص إعادة انتخاب بايدن، وهو ما يبدو مرجحاً مع مرور الوقت، فهل ينتقم نتنياهو من بايدن بتوريطه في حرب تؤدي لإسقاطه؟
مذبحة غزة أفقدت الغرب سرديته وتأثيره، وأعادت إلى الأذهان مذابح شهدها الشرق خلال غزوات الفِرنجة وزمن الاستعمار البغيض، وستكون لها تداعيات هائلة على كافة المستويات، وسيدرك الذين يعبثون بالمنطقة، ويمنعون نهضتها ويُقوِّضون عمرانها، أنهم آثمون وسيدفعون ثمناً كبيراً ساعة يحين الحساب.
(*) كاتب سوري، مدير مركز لندن لاستراتيجيات الإعلام.