كاينابريس – حسن أوريد(*)
صدرَ هذا الشهر (فبراير/شباط) كتابٌ ضخم للكاتب الفرنسي جون بيير فيليو عن مسار القضية الفلسطينية، لأكثر من قرن بعنوان: “كيف ضاعت فلسطين، ولم تنتصر إسرائيل؟ تاريخ نزاع (القرن التاسع عشر، القرن الواحد والعشرين)”.
ينطلق المختص الفرنسي من التحول الذي أحدثه تاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي لم ينبثق من عدم، ولكن من يأس غذّته إسرائيل لدى الفلسطينيين، من خلال حصار غزة، وخنق الضفة الغربية، والتضييق على فلسطينيي 48، أو عرب إسرائيل كما تسميهم إسرائيل، وتطويق الوضع بسلسلة من الإجراءات القانونية (قانون القومية) والإدارية والأمنية، والمعاهدات (اتفاق أبراهام).
أهمية هذا الإقرار أنه يأتي من فرنسي غربي، أكاديمي، يحمل رصيدًا مشهودًا، ويتميز بالدقة في المعرفة، والحصافة في تحليل الشأن العربي تتأتّيان من معرفة وثيقة بظروف العالم العربي، ومعاينة وجدانية للقضية الفلسطينية؛ لأنه عاش رَدَحًا غير يسير في غزة.
صِيتُ فيليو لا يقف عند أروقة فرنسا التي يظل صوتها مبحوحًا في قضايا الشرق الأوسط عمومًا، بل تتردد أصداؤُه في رحاب الجامعات الأميركية كهارفارد، وله تأثيراته المحتملة على من يُسمون “الأرابيست” (أي المعنيين بشؤون العالم العربي في دائرة القرار)، إذ يُعتبر فيليو من أصحاب الوزن الثقيل بين المهتمين بقضايا العالم العربي.
يخلُص فيليو إلى أن إسرائيل على مدار قرن، انتصرت عسكريًا بفضل الدعم الغربي، بريطانيا أولًا، والولايات المتحدة لاحقًا، بَيد أن انتصارها ليس إستراتيجيًا، حتى في ظل ما يجري الآن، من صور “القيامة” أو الدمار الشامل الذي تجريه؛ لأنها لم تستطع أن “تقبر” القضية الفلسطينية، ولا أن تدفع الفلسطينيين إلى الاستكانة.
حسب فيليو، فإن القوة ليست هي سبيل الحل، ومن الضروريّ الخروج من سردية مختزلة، أو هوياتية متضاربة، تقوم على لعبة صفرية، تفترض أن انتصار طرف هو بالضرورة هزيمة للطرف الآخر.
الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، متداخلان. أحدهما يحتاج للآخر للخروج من خطاب أحادي يلغي الآخر، وبسببه توارى حلم دولة من قوميتين، أو ما يسمى في الأدبيات الفلسطينية بالدولة الديمقراطية، (مما لم يؤمن به اليمين قط).
وفي نفس الوقت، بدا جليًا أن استماتة الشعب الفلسطيني في التشبُّث بأرضه- في ظلّ تجاهل حقوقه- ترهن مستقبل إسرائيل.
يتوجب الخروج من هذه الشَرنقة، ذلك أن العالم محتاج لحل القضية الفلسطينية؛ لأنها سمّمت العلاقات الدولية في ظل الحرب الباردة، ورسّخت صِدام الحضارات، بعدها، وأضعفت الأمم المتحدة التي كانت قراراتها حول النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي يُضرب بها عُرض الحائط؛ بسبب الفيتو الأميركيّ، ويمكن لبقاء هذه القضية دون حل، أن يكون بروفة لوضع أشد سوءًا على مستوى العلاقات الدولية في المستقبل.
هنا يستعير فيليو المسار نصف المتفائل ونصف المتشائم لشخصية سعيد “المتشائل”، لإميل حبيبي للخروج من الشَرنقة التي يوجد فيها ملف النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. يتنازعه اليأس من وضع يمكن أن يزداد سوءًا، ثم ينقذه الأمل، ويغلب عليه التفاؤل، في أفق يكون منطلقًا لمقاربة جريئة وعادلة.
المسألة تتجاوز مجرد وضع حد لاحتلال شعب مشرّد ومغبون في حقوقه، إلى وضع لبنات جديدة لعالم يتسم بالعدالة؛ لأن العالم الذي نعيشه – وحتى في ظل الحرب الباردة- لم يقف على رجلَيه بسبب عدم حل القضية الفلسطينية، وهو الآن يتوجّه إلى حرب حضارية، إن لم يتم استخلاص العِبرة من الوضع الحالي.
أسهم عدم حل القضية الفلسطينية في تسميم العلاقات الدولية، وفي سباق التسلح، وفي التوتر بين الدول وبين المجتمعات، وتحييد الأمم المتحدة، وفي النزوع إلى بشاعة العلاقات المجتمعية، حسب تعبير الأكاديمي الفرنسي. ينبغي حل القضية الفلسطينية، من أجل العالم إذن.
طبعًا خِيار “حلّ” من دون الفلسطينيين غير وارد، ولم يعد واردًا، ولذلك لا يمكن الانطلاق إلى عصر جديد باطمئنان من دون حل القضية الفلسطينية. اتفاقات أبراهام التي تتضمن رؤية الولايات المتحدة لـ “حل” النزاع، تبدو “كادوك” (متجاوزة بالفرنسية) – حسب التعبير الذي سبق أن استعمله ياسر عرفات عن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية – لأنها تحمل خطيئة أصلية، هي تجاهل الفلسطينيين، وتجاهل الرأي العام في العالم العربي.
ويقترن بتلك النقطة السابقة أن نتساءل: هل يمكن ترك ملف النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي تحت رحمة دكتاتورية الولايات المتحدة التي أزاحت روسيا عن الملف، وتتضايق من أي دور محتمل من الصين.
للكتاب أهمية كبيرة، ولا سيما في الظرفية الحالية التي دخلت فيها الحرب على غزة مرحلة الاستئناس، وهي أخطر مرحلة. إذ يذكرنا أن الرأي العام يجب ألا يستكين، بل يستمر في تكثيف الضغط من أجل وقف الحرب، وبخاصة في الولايات المتحدة.
وعلى المستوى الرسمي، يجب دفع الأمم المتحدة إلى تبنّي خيار مؤتمر دولي لحل النزاع. بتعبير آخر، يجب إخراج القضية الفلسطينية من سلطة دكتاتورية الولايات المتحدة.
المفيد في الفترات الانتقالية، أنها تمكننا من صياغة قواعد جديدة، على خلاف الأوضاع المستتبة التي تجبرنا على الخضوع لقواعد قائمة.
يمكن أن نستخلص نتيجة أخيرة من كتاب فيليو، هي العودة إلى الذاكرة. اللافت على مستوى العالم العربي، ومنذ “مسلسل السلام” هو تواري السردية الفلسطينية عن وجدان المجتمعات المدنية، بل إنها اقترنت أحيانًا بجهل مطبق وتجاهل مقصود. ويتوجب الآن إعادة تلك السردية، في الإعلام، والتعليم، وباللغة العربية.
(*) روائي مغربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.