لأكثر من ثلاثة أشهر، مارست الولايات المتحدة الأمريكية، حليفة الصهاينة وداعمتهم الأولى، ضغوطا سياسية شديدة على قادة حماس عبر وسطائها العرب لتوافق الحركة على صفقة أخرى تطلق بموجبها ما تبقى لديها من رهائن.
ظل الأمريكان يحرضون الوسيطين القطري والمصري على محاولة الظفر بتنازل المقاومة لتوقع على صفقة يخرج منها الصهاينة مرفوعي الهامات، لكن رجال القسام أبوا إلا أن تبقى رؤوس القتلة منكسة بعد أن أذلوها يوم ملحمة 7 أكتوبر، وتمسكوا بشروط محددة لقبول الصفقة، ليرجع الأمريكان بعد كل تحريض للوسطاء خائبين؛ أما قطر فتقدم رجلا وتؤخر أخرى، ولا تقف على الحياد بل تؤازر الموقف الفلسطيني ولو على استحياء، أو هكذا يبدو موقفها، وأما مصر وسيسيها وعسكرها ومخابراتها فلا ينتظرون تحريضا من أحد على أحد من أمة الإسلام، فهم متصهينون أكثر من الصهاينة، وما إحكامهم تغليق المعابر في وجه غزة إلا نقطة من بحر خذلانهم للقطاع المحاصر لما يقرب من عقدين.
لم ترفض حماس وبقية فصائل المقاومة أي مبادرة إقليمية أو دولية لهدنة تحقن دماء الغزيين، لكنها ترفض بشدة أن تقبل بهدنة يفرض فيها العدو شروطه ويأخذ ولا يعطي شيئا في المقابل، فقال قادة حماس بصوت واحد: هذه شروطنا واضحة ومختصرة في ثلاث نقاط:
– نؤكد تمسكنا بضرورة إعلان وقف إطلاق النار بشكل دائم وواضح في قطاع غزة.
– نؤكد تمسكنا بشرط الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال، وعودة النازحين إلى مناطقهم التي نزحوا منها من دون قيد أو شرط.
– نؤكد تمسكنا بكل شروطنا وقضايا الإغاثة والإعمار، ومن ثم الوصول إلى صفقة الأسرى.
وما لم يقبل الاحتلال بالخضوع لهذه الشروط، تقول المقاومة: لا صفقة ولا هدنة.
صلابة موقف حماس، ورفضها كل الضغوط والمساومات للتنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني، خاصة بعد كل الدماء البريئة لآلاف الشهداء الغزيين، وإصرارها على عدم وضع البندقية قبل أن يضعها قتلة الأنبياء والأبرياء، كلها عوامل أغاظت قادة الاحتلال، ومرغت غرورهم في الوحل كما فعل رجال المقاومة بجنودهم على ثرى غزة الصامدة لأكثر من ستة أشهر في وجه جيش إرهابي مدعوم من أعتى قوة عسكرية في العالم، فلم يملك القتلة حيلة للقضاء على المجاهدين في الميدان، غير اقتراف جريمة خسيسة تنضاف إلى خطاياهم السوداء في مواصلة الاستقواء على المدنيين العزل، فاستهدفوا أولاد القائد إسماعيل هنية وأحفاده في محاولة يائسة لكسر إرادته، في يوم العيد إمعانا في الإيذاء وطمعا في تحطيم معنوياته ودفع المجاهدين للتراجع والتنازل {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} [سورة آل عمران].
فصمد الرجل ولم يلن ولم ينكسر، بل فاجأهم كما فعلت الحرة زوجته، فصبرا واحتسبا واستقبلا الخبر الأليم بثبات الصابرين الموقنين بوعد الله القائل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [سورة آل عمران]، فسقط في أيدي القتلة ورجعوا بالخيبة يتجرعون هوان العجز المرير أن ينتصروا على رجال ونساء لا يملكون الكثير بميزان الدنيا، لكن معهم السر الأعظم والوصفة المعجزة ليحققوا المستحيل، إيمان بالله لا تهزه عاديات الزمان، وذلك كان منذ الأزل الصخرة التي تتفتت عليها كل الصعاب، واليقين الذي تهون عند أعتابه كل المصائب.
لقد علمتنا فلسطين بثبات رجالها ونسائها وكبارها وصغارها وبذلهم وتضحياتهم الكثير، ولا زالوا، حتى إننا كنا نمر بالآيات من كتاب الله نتلوها فلا نتوقف عند معانيها تدبرا وفقها، فإذا مر بنا اليوم مشهد من مشاهد الجهاد والصبر والمصابرة والمرابطة على ترى الأرض المباركة كان لنفس الآيات وقع شديد وتدبر عميق كأننا نتلوها أول مرة
ولكن، لعل المجاهدين في غزة وأكنافها لما خططوا ونفذوا “طوفان الأقصى” كانوا يتوقعون من الأمة الإسلامية أن تزحف لنصرة الأقصى ومؤازرتهم في تحريره، ولعل هذا ما جعلهم يختارون لفظة “الطوفان” -لما تحمل من دلالاتِ الاكتساح الشامل والكبير- في هجمتهم الملحمية، لكن الذي اكتشفوه واكتشفناه جميعا أننا عاجزون إلى درجة الهوان المقعد عن دفع صائل عدو خسيس حقير رعديد لم تغن عنه كل ترسانته من أحدث الأسلحة شيئا، ولم ينجح حلفاؤه من أقوى الدول أن يحموه من أن يناله ما حاق به من الخزي والهزيمة النكراء على يد عصابة محاصرة مخنوقة محظورة، فكيف لو كان معها من العدد والعدة أكثر مما هي عليه؟
لقد خطط رجال القسام وعزموا وتوكلوا على ربهم، فخذلناهم وتركناهم لمصيرهم، وكل يوم يمضي منذ انطلاق ملحمة الطوفان يؤكد لنا صمود أهل غزة حقيقتين ساطعتين، الأولى: ضعف كيان الاحتلال المجرم وخواءه وخوار قوته المزعومة والمتوهمة في مواجهة جماعة مؤمنة تقاتل بأضعف الوسائل وأقل عدد من الرجال، والأخرى: هواننا عن مواجهته على كثرتنا وقوتنا، وتلك حال الغثائية التي أصابت أمتنا التي تقارب الملياري نسمة، مصداقا لقول رسولنا الكريم في وصف الداءين المقعدين “حب الدنيا وكراهية الموت”.
لقد علمتنا فلسطين بثبات رجالها ونسائها وكبارها وصغارها وبذلهم وتضحياتهم الكثير، ولا زالوا، حتى إننا كنا نمر بالآيات من كتاب الله نتلوها فلا نتوقف عند معانيها تدبرا وفقها، فإذا مر بنا اليوم مشهد من مشاهد الجهاد والصبر والمصابرة والمرابطة على ترى الأرض المباركة كان لنفس الآيات وقع شديد وتدبر عميق كأننا نتلوها أول مرة، وما ذلك إلا لأن هذا القرآن أُنزِل ليعمل به ولتحكيم تشريعاته في كل مناحي الحياة، لا ليُدس بين الكتب في خزانة يعلوها الغبار، ولا يُستل إلا في رمضان ليتلى بجمود وجفاء، وإن هذا البلاء العظيم الذي نزل بالأمة لفرقان حق يميز الله به الخبيث من الطيب، فإن تتوبوا يا أمة الإسلام إلى ربكم فترجعوا إلى دينكم وتجاهدوا أعداءكم فهو خير لأنفسكم، {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (38)} [سورة محمد].
(*) كاتب صحفي مغربي