كاينابريس – أيوب بوتشيش(*)
المكان: دار العجزة أو الذين أفنوا زهرة شبابهم بعدما تجرعوا كثيرا من الأيام وفي الغالب كثيرا من الآلام.
الزمان: أي زمن شئت، فالتجاعيد واحدة، والنظرات العميقة تنبئك عن جراح الماضي والليالي الحالكة، لست أدري كيف لا يمكن أن لا يمر ببالك هنا سوى القصص الحزينة بدءا بالحاج المكي السبعيني عمرا، بطربوشه المطرز وعيونه الغائرة وجلبابه المغربي الفضفاض، الذي ينتظر دوما ابنه المهدي كلما أسعفته الذاكرة، نعم إنه مهدي ومرضي زوجته التي قررت ذات صباح أن “با المكي” أصبح عبئا، لأن جهازه البولي أصبح يخونه، كما خانته ذاكرته آنفا… فما كان للمهدي العاق إلا أن يركن والده المريض بـ”ألزهايمر” بالقرب من دار المسنين، فالحاج المكي الذي قضى دهرا بمصنع كوسيمار، انتهى به المطاف للجلوس بين أقرانه الذين ينتظرون الموت بغرف البالغين من السنين عتيا.
غير بعيد عن الحديقة، تتوسط النساء “امي فاطنة”، امرأة طاعنة في السن بيدين مخضوضبتين بالحناء، ووشاح أبيض يغطي ظهرها المحدودب، ترقب المكان بنظرات باردة وكأنها استسلمت لقدرها، فبعدما أبدعت الحياة في سرقة أيام شبابها، صفعتها المرة تلو الأخرى، فالمسكينة نشأت يتيمة، يتيمة أبوين، ويتيمة حظ!!
اقتادتها الظروف إلى هذا المكان بعدما قرر أخوها الصغير هجرة الوطن، وقبلها هجرة آخر قلاع الإنسانية بالاستيلاء على نصيبها الهزيل من الإرث.
هنا تتناثر القصص والحكايا، وتتشابك الغصة بالحنين، فالكل ينتظر غائبا، منهم من ينتظر ابنا أو بنتا، ومنهم من ينتظر قريبا، ومنهم من مل الانتظار!
كنت أتحاشى الغوص في الأسئلة التى أتت بهم إلى هنا، فالكثيرمنهم يتجنب الكلام، ويدخل في نوبة صمت ثقيلة، معذورون هم، فالبوح يعاود الجراح أحيانا بنفس الوقع، أو أقل قليلا أو أكثر!!
هل تعلم ماذا يعني أن تنتظر غائبا؟ غائبا قد يأتي أو لا يأتي! حينها غادرتني كل الأسئلة إلا سؤالا واحدا، من أين دخلتنا هذه اللوثة الغربية؟ فتقاليدنا كمغاربة فضلا عن ديننا لا يسمح لنا أن يتخلى المرء عن أصوله أو فروعه أو حتى أحد مقربيه تحت أي ذريعة.
قد لا يشبه هذا المقال، أيها القارئ الكريم بعض المقالات التي قرأتها سابقا، فلا هو يبحث عن الأسباب الاجتماعية ولا الاقتصادية التي من شأنها أن تدفع الأسر لوضع أحد الأبوين بدار المسنين، ولا حتى يريد أجوبة واضحة حول الظاهرة التي كنا لا نعرفها كمغاربة وأضحت تعرفنا جيدا، إنما هو جولة خاطفة في نفسية المسن الذي يقبع طوال الوقت داخل الحجرات الباردة من دفء العائلة.
با المكي، امي فاطنة… وغيرهم الكثير، على اختلاف أسمائهم وقصصهم، ينتظرون دائما على حافة انقضاء العمر، فزيارة لدار المسنين بإمكانها أن تخرجهم من أحزانهم ولو للحظات.. إذا ما تبقى في العمر لحظات!
(*) كاتب صحفي
مقالة تتناول واقعنا المر