كاينابريس – د. نايف بن نهار(*)
يتخيّل كثيرون أن هناك تساويًا بين مصطلحي “الليبرالية” و”العلمانية”، وفي الحقيقة هما مصطلحان مختلفان، فالليبرالية موقف من مسألة الحرية، والعلمانية موقف من مسألة الحُكم.
الليبرالية تعني الحرية المطلقة ما لم ينشأ عن ذلك ضرر حسي مباشر في حق الآخرين، في حين العلمانية -على التعريف المشهور- تعني فصل الدين وتحييده عن الدولة.
وحتى تتضح المسألة يجب أن نجيب على سؤالين: هل كل علماني ليبرالي؟ وهل كل ليبرالي علماني؟ السؤال الأول أوضح وأسهل، والإشكال في السؤال الثاني.
– جواب السؤال الأول: لا. فليس كل علماني ليبراليًا، هتلر وستالين وموسوليني كلهم كانوا علمانيين، لكنهم لم يكونوا قط ليبراليين؛ لأنهم لا يعترفون بالحريات بكل صورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إذن هتلر علماني؛ لأنه يفصل الدين عن الدولة، لكنه ليس ليبراليًا؛ لأنه لا يؤمن بمبدأ الحرية.
– السؤال الثاني: هل كل ليبرالي علماني؟ قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من فهم قضية مهمة، وهي أنه لا يمكن أن نتصوّر وجود العلمانية إلا إذا تصوّرنا وجود دين يحتوي على تشريعات مرتبطة بالدولة، فالعلمانية لا يمكن تصوّرها أو المطالبة بها في دولة تتبنى الزرادشتية مثلاً؛ لأن الزرادشتية ليس فيها أي تشريع مرتبط بالدولة، والعلمانية متعلقة بالدولة، فإذن هما يسيران في خطين متوازيين، فلا يمكن تصوّر تعارضهما. فحين نتحدث عن شخص بأنه علماني، فهذا يعني أن لديه دينًا يمتلك تشريعات مرتبطة بالدولة وهو يرفض إدخال هذه التشريعات في حيّز الدولة، أما الشخص الذي لا يتحدث دينه عن الدولة فلا يمكن أن نصفه بأنه علماني. خذ مثالاً على ذلك: الإنسان يوصف بأنه أعمى أو مبصر؛ لأنه يمتلك عينين، فثمة احتمال أن يكون مبصرًا واحتمال أن يكون أعمى. لكن الحائط مثلاً لا يمكن أن نقول إنه أعمى، لماذا؟ لأنه لا يملك عينين أصلاً تجعل الإبصار محتملاً، ولذلك لا أحد يصف الحائط بأنه أعمى. إذن لا يجوز أن ننفي صفة عن شخص إلا إذا كان يحتمل هذه الصفة، والدين الذي لا يمتلك تشريعات مرتبطة بالدولة لا يمكن أن نصفه بأنه علماني؛ لأنه لا يوجد تشريع يمكن أو لا يمكن فصله عن الدولة.
بعد هذه المقدمة نعود إلى السؤال: هل كل ليبرالي علماني؟ الجواب: نعم، كل ليبرالي علماني؛ لأن الليبرالية تعني الحرية المطلقة، والدين بطبيعته يمتلك تشريعات، والتشريعات تعني تقييدات، والليبرالية تفر من القيود كفرار الرجل من الأسد.
الخلاصة مما مضى: أن العلماني قد يكون ليبراليًا، كما هو الحال في لبنان، وقد لا يكون ليبراليًا كما هو الحال في سوريا. ففي لبنان الدولة علمانية وفي نفس الوقت ليبرالية؛ لأنها لا تتدخل في الحريات مطلقًا، بخلاف النظام في سوريا، فهو علماني؛ لأنه يفصل الدين عن الدولة؛ لكن موقفه من الحريات يضاد الموقف الليبرالي. أما الليبرالي فيجب أن يكون علمانيًا؛ لأنه إذا لم يكن علمانيًا فهو خاضع لتشريعات دينية، والتشريعات الدينية تؤدي إلى القيود، والليبرالية ترفض القيود. إذن كل ليبرالي علماني، وليس كل علماني ليبراليًا.
(*) كاتب وأكاديمي، مدير مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة قطر.