إنهم لهم المنصورون

إحسان الفقيه14 سبتمبر 2024
إحسان الفقيه

كاينابريس – إحسان الفقيه(*)

ما من أحداث تتجلى فيها سنة التدافع بين الحق والباطل، إلا وبزغت طائفة من أهل النفاق ومرضى القلوب، يشغبون على الفئة المؤمنة المجاهدة!

فتارة يعيبون على هذه الفئة بيعهم أنفسهم لله، وتقديم أرواحهم ثمنًا لإعلاء كلمة الله وتحرير الأوطان، ويتفاخرون أمامهم بالأمن الذي يرتعون فيه لمّا آثروا القعود، يقولون كما قال أسلافهم من المنافقين: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا}، أو {لو أطاعونا ما قُتِلوا}. وتارة يبغون بث الريبة في قلوب المؤمنين عند تأخر النصر وطول أمد الصراع، ويحاولون تشكيكهم في موعود الله فيقولون: {مَا وعدَنا اللَّهُ ورسوله إلَّا غرورًا}. وتارة أخرى يثبطونهم بفارق القوة، ويضخمون من قدرات العدو تخذيلًا للمؤمنين، ومنطقهم {إنَّ النَّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم}.

هذه الطائفة أدلت بدلوها المعتاد منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى، يسخّرون أقلامهم ومنابرهم للنيل من المقاومة وتسفيهها وشيطنتها، يتحدثون عن عدم تكافؤ القوى متجاوزين البعد الإيماني وعدالة القضية، ومتجاوزين كذلك حقائق التاريخ والواقع، التي تؤكد على أن عدم تكافؤ القوى هو الأصل في معارك التحرير التي يأتي خلالها المحتل بكامل قوته وعتاده، مقابل الأحرار الذين يستبسلون دفاعًا عن أرضهم وعرضهم وشرفهم، بأقل الإمكانات وأبسط الوسائل.

أذناب النفاق يتخذون من أعداد القتلى ذريعة للنيل من المقاومة، وبينما يتركون الهجوم على القاتل الجائر الصهيوني الذي يقتل أصحاب الأرض، تراهم يصبون جام سخطهم على المقاومة التي تقاتل نيابة عن شعب فلسطين والأمة، ويتهمونها بالتسبب بقتل المدنيين. فهؤلاء لا يعرفون معنى الحرية والكرامة والشرف، يلبّسون على الجماهير في معاني النضال والكفاح، فمتى لم يكن للتحرير ضريبة في الأرواح؟ إن كان عشرات الآلاف من أهل غزة قتلوا في معركة الصمود والحرية، فهناك مئات الآلاف- بل الملايين- قتلوا في أماكن أخرى في معارك التحرير، في فيتنام والجزائر وغيرهما.

هناك طائفة أخرى تظهر عند الأحداث التي تتبدى فيها سنة التدافع بين الحق والباطل، تلك الطائفة قد ظهرت بطبيعة الحال منذ انطلاق طوفان الأقصى، وهي التي لا صلة لأصحابها بالنفاق، لكنهم بشر ككل البشر، يصيبهم الضعف والوهن، هؤلاء الذين يستبطئون النصر ويتساءلون {متى نصر الله}؟

يتساءلون في غير سخط ولا ارتياب بمقتضى حقيقة أنهم على الحق وأن عدوهم على الباطل، فلماذا تأخر النصر والتمكين؟ على غرار تساؤل المؤمنين عندما هزموا يوم أحد: {أنَّى هذا}.. كيف حدثت هذه الهزيمة مع أننا أهل الحق وهم أهل الباطل؟ فلم يعنفهم القرآن، ولم يتهم مقاصدهم، إنما أخذ بحُجزهم صوب الوقوف على حقيقة النصر ومعانيه وأسبابه.

الأمر نفسه اتضح يوم أن كان النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت الحرام، فأتاه بعض الصحابة الذين أرهقهم طول أمد الاستضعاف وتأخر النصر وعلو الباطل، قد استبطؤوا النصر، فلم يسخط عليهم، وإنما بيّن لهم أن الابتلاء سنة الله في عباده، فقال: “قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، ثم يُؤتى بالمنشار فيُجعل على رأسه، فيُجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحمٍ وعصبٍ ما يصرفه ذلك عن دينه”، ثم أخذهم إلى حقيقة الإيمان والثقة بموعود الله عز وجل رغم ضبابية الأحوال، محذّرًا إياهم من الوقوع في فخ العجلة، فقال: “والله ليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله تعالى، والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون”.

إن هذه الفئة بحاجة إلى فهم معاني النصر وحقيقته، فكون الفئة المؤمنة صابرة صامدة على سلوك الطريق فهذا في حد ذاته نصر، فالله تعالى لم يأمر عباده بالنصر، وإنما أمرهم بالأخذ بأسبابه، أما النصر فهو من عند الله، يرتبط تعجيله أو تأخيره ارتباطا وثيقًا بحكمة الله تعالى، من تمحيص الصفوف واتخاذ الشهداء واستخراج ما في النفوس وغير ذلك، فليست غلبة العدو وظهوره على أهل الإيمان لِهوان أهل الحق على ربهم.

ليس بالضرورة أن يأتي النصر في الحال، بل ربما لا يشهده صانعوه، ولنا في قصة أصحاب الأخدود مثلٌ وعبرة، فالغلام الذي ضحى بنفسه من أجل إظهار الحق، وأخبر أهل الكفر والبغي عن الوسيلة الوحيدة التي يستطيعون قتله بها بعدما عجزت وسائلهم، فأمسك الملك سهما من كنانة الغلام وقال “بسم الله رب الغلام”، فقتله، فجعل من شهادته سبيلًا إلى إيمان الناس، والذين سارعوا على إثر هذه المعجزة بالإيمان قائلين: “آمنا بالله رب الغلام”، فهذا الشاب أخذ بأسباب النصر ولم يدركه، ولم ير ثمرته، لكنه قد انتصر بلا ريب.

أحرق الملك هؤلاء الذين آمنوا وثبتوا على الإيمان، هؤلاء أيضًا انتصروا، لأنهم أصبحوا مصدر إلهام لكل أهل الإيمان على مر الأزمان بعدما خلّد القرآن ذكرهم.

أهل الإيمان القائمون على أمر الله في غزة وسائر فلسطين، الذين تحرروا من فتنة القعود والدعة، وهبوا لنصرة الحق وتحرير الأرض، هؤلاء حتى وإن تأخر النصر، حتى وإن لم يروا ثمرته، فهم بلا ريب قد انتصروا، لأنهم ملهِمون للأجيال المعاصرة واللاحقة.

انتصروا لسلوكهم هذا الدرب والثبات عليه، انتصروا لأنهم أوقدوا شرارة النضال والكفاح من أجل استرداد الحق، انتصروا لأنهم آمنوا بموعود الله، ومكابدة المصاعب على قاعدة “إحدى الحسنيين”، انتصروا حينما صدقوا الله، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


(*) كاتبة أردنية، باحثة في التاريخ والعقائد.

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل