الإيمان والأمن

يونس مسكين2 ديسمبر 2024
يونس مسكين

يقوم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية هذه الأيام بخروج مكثف ومثقل بالرسائل، بدءا من خطابه الأسبوع الماضي أمام المجلس العلمي الأعلى في لقاء خاص بمشروع “خطة تسديد التبليغ” التي ترمي من بين ما ترمي إليه إلى توحيد خطبة الجمعة وتوجيهها مركزيا، مرورا بتصريحاته أمام غرفتي البرلمان، ووصولا إلى كلمته صباح الأحد 01 دجنبر 2024، ضمن فعاليات ندوة المجلس العلمي الأعلى حول موضوع “العلماء ورسالة الإصلاح في المغرب الحديث”.

حديث الوزير الروائي والمؤرخ عن علمانية المغرب داخل القاعة نفسها التي اعتلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منصتها قبل بضعة أيام، ونقله ذلك عن حديث جمعه بوزير الداخلية الفرنسي، لا يمكن ولا يعقل أن يكون من باب الصدفة وغياب القصد.

كما أن خطاب وزير الشؤون الإسلامية الحامل لأطروحة في الأمن القومي صباح هذا الأحد، فاتح دجنبر، لا ينبغي تجاهله أو إغفال رسائله الكبيرة.

أعتبر شخصيا خطابات الوزير التوفيق منذ خلافته للراحل عبد الكبير العلوي المدغري في هذا المنصب، من بين أكثر المنافذ فعالية في قراءة واستشراف ما يعتمل في العقل الباطن للدولة، بعد الخطب الملكية.

ويمكن، لمن شاء، أن يجد بين ثنايا هذه الخطب ما يصب في جل الحقول، بدئا من الحقل الدستوري عبر تصوراته الخاصة بالبيعة، ووصولا اليوم إلى الحقلين الاجتماعي والأمني.

التوفيق قال في خطابه الأسبوع الماضي أمام مجلس العلماء، إن عليهم أن يتركوا الأمور المرتبطة بالعبادات جانبا، موضحا أن وزارته بصدد وضع اللمسات الأخيرة على محتوى مصوّر سيتم ترويجه عبر الوسائط الاجتماعية يتضمن كل أساسيات صحة الصلاة والطهارة… داعيا العلماء إلى التركيز على موضوع الزكاة.

التوفيق قال في محاولة لطرد أي سوء فهم لمسألة ترك العبادات الأخرى جانبا، إن من يدفع الزكاة فإنه حتما يصلي ويصوم… معتبرا أن دور العلماء الأساسي اليوم، في رأيه، هو تنبيه عموما المغاربة إلى ضرورة دفع الزكاة من جميع أنواع الدخل، بما في ذلك الأجور التي يتلقاها العمال والموظفون.

لكن الرسالة “الغليظة” التي حملتها خطب الوزير التوفيق في الآونة الأخيرة، تتعلق بالحقل الأمني، حيث جاءت كلمته صباح أمس الأحد منطوية على أطروحة في الأمن القومي والتموقع الجيوسياسي انطلاقا من السياسة الدينية.

كلمته الأسبوع الماضي كانت حاملة لرسالة تسييج الخطاب الديني وتنميطه، حين دعا إلى ضمان “حياد المساجد وما يقال في المساجد وحياد الخطباء والأئمة”، متهما الأصوات التي رفضت مشروع توحيد خطبة الجمعة بالتشويش، بل حرّض العلماء على قرابة 1600 من الخطباء (05 في المئة) ممن يرفضون إلقاء الخطبة الموحدة، معتبرا أنهم يمثلون مرضا داخل جسم الخطباء “ينبغي أن يداويه العلماء”، متسائلا “من أين يأخذون خطبهم وماذا يقولون فيها؟”.

خطاب أحمد التوفيق الأخير أمام علماء الدين المغاربة (ندوة 01 دجبنر) ليس مجرد حديث وعظي، بل يعكس رؤية استراتيجية للدولة المغربية في إدارة الشأن الديني بوصفه امتدادا للأمن القومي. فالوزير ركز على مخاطر التماهي مع أجندات خارجية، محذرًا من أن جماعات تسعى إلى التمدد في المغرب ولا يمكن التعاطف معها انطلاقا من التعاطف مع قضايا الأمة في المشرق.

الإشارة تكاد تكون مباشرة إلى إيران وحلفائها، لا سيما مع تزايد النفوذ الإيراني في بعض الدول العربية عبر دعم جماعات مسلحة وسياسية ترفع لواء المقاومة. وخطاب التوفيق بهذا المعنى يحاول ضبط العلاقة بين الدين والسياسة، ليكون الدين رافعة لتعزيز السيادة الوطنية وليس مدخلًا لاختراق الأجندات الأجنبية.

هذا التحذير من “جماعة هي امتداد لنظام يخطط للتمدد في المغرب” يمكن قراءته بوضوح في سياق التوتر الإقليمي المتزايد مع إيران، واستفادة هذه الأخيرة من تعاطف أوساط دينية وشعبية كبيرة في المغرب بفعل دعمها للمقاومة في فلسطين ولبنان.

خطاب الوزير يتجاوز التحذير النظري ليُبرز أن الخطر لا يكمن فقط في الأبعاد الأمنية، بل أيضا في التلاعب بالمشاعر الدينية للمغاربة، مستغلا تعاطفهم مع قضايا الأمة، خاصة القضية الفلسطينية.

الرسالة هنا واضحة: لا يمكن السماح للدين بأن يكون غطاء لأجندات جيوسياسية أجنبية تسعى إلى تقويض وحدة المغرب واستقراره، بحسب ما يُفهم من خطاب الوزير.

التوفيق دعا العلماء إلى “حسن قراءة الخريطة السياسية للبلاد الإسلامية”، وهو انتقاد ضمني لتعبير بعض الأصوات الدينية عن تعاطفها مع قضايا المشرق. وحذّر في هذا السياق من الانجراف وراء تعاطف غير مشروط مع قضايا دولية قد تُستغل لخلق انقسامات داخلية.

استحضار الوزير للتاريخ المغربي، مثل مشاركة المغاربة في الحروب الصليبية وتجاهل المشرق لنصرة الأندلس، يعكس رغبة في ترسيخ الهوية الوطنية للمغاربة كجزء من كيان سياسي مستقل، لا مجرد تابع للعالم الإسلامي الأكبر. هذه الإشارة تدعو العلماء إلى موازنة تعاطفهم مع الأمة الإسلامية بحسابات السياسة الواقعية التي تضع مصالح المغرب أولا.

استدعاء الماضي لم يكن مجرد إشارة ثقافية، بل تذكير بأن الانخراط في قضايا خارجية دون وعي سياسي قد يُضعف الوحدة الداخلية. واستحضار الوزير لسعي العباسيين للإضرار بوحدة المغرب يعكس رؤية ثابتة بأن الأطماع الخارجية ليست جديدة، وأن العلماء، كما تراهم الدولة، مطالبون اليوم، كما في الماضي، بالجمع بين “الطيبوبة والفطنة السياسية” لتجنب الوقوع في فخاخ الأجندات الخارجية.

خطاب الوزير هذا يُعيد صياغة دور العلماء من كونه مجرد وظيفة دعوية أو أخلاقية، كما يعيد صياغة العلاقة بين العلماء والحاكم، في إطار رؤية تجعل العلماء شركاء في المشروع السياسي للدولة لا مجرد أدوات لتبرير قراراتها.

فالوزير التوفيق يوضح أن العلماء بحاجة إلى الحاكم لضمان الأمن واليقين الديني، وليس العكس كما قد يتصور البعض. هذه العلاقة، كما يقدّمها التوفيق، تعكس نموذجا فريدا يكون فيه الحاكم ضامنا للاستقرار الديني والسياسي، والعلماء مطالبين بتأطير الخطاب الديني بما يخدم هذا الهدف.

طرح يُبرز أن وظيفة العلماء ليست فقط في إرضاء العامة أو نصح الحكام، بل في تعزيز السلم الاجتماعي من خلال توجيه المجتمع نحو قيم أخلاقية ودينية تخدم استقرار الدولة.

ما يقوله وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية هذه الأيام ليس مجرد تحذير عابر، بل خريطة طريق توضح كيف يمكن للدين أن يكون بالنسبة للدولة أداة لتعزيز السيادة الوطنية في مواجهة التحديات الخارجية، وأن الإيمان والأمن، بالنسبة للدولة، وجهان لعملة واحدة، ولا إيمان يترسخ دون أمن يحميه، ولا أمن يستدام دون إيمان يرشد خطاه.

ويجسد العلماء هذه المعادلة في المغرب، حيث تكلّفهم الدولة بحمل رسالة الدين لا كعقيدة فردية فقط، بل كدعامة جماعية تصون الاستقرار وتوحّد الصفوف.

الإيمان هنا ليس مجرد طمأنينة روحية، بل ركيزة سياسية واجتماعية تضمن الأمن، وتجعل من الدين قوة تعزز السيادة وتحمي الوطن من التحديات الخارجية.

فماذا أنتم قائلون؟


يونس مسكين | صحفي وباحث مغربي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل