الذَّوْق والورق

د. معاذ الخلطي23 فبراير 2025
د. معاذ الخلطي

أغلب الناس يفهمون مراحل العمر بعدما يكملون جولتها؛ لذا كان دور الشرائع اختصار الزمن على بني ءادم، لعله يستمع فيربح بضع سنوات. إذا نحن نفهم الخمسين عاما بعد بلوغها ونفهم الأربعين عند نهايتها ونفهم الثلاثين كذلك فهذا يعني أن فهم كلمة لها معنى يتطلب عشر سنين. فـ”الإنذار” ظاهرة في الشرائع ليس لتهديد الكائن البشري بالكلام، وإنما لربح السنوات ما أمكن.

من مثاقل الكائن البشري أنه يفهم بالشعور لا يفهم بالعقل؛ والشعور مساحتُه تتطلب البُعد الزماني، والبُعد الزماني محدود! وهذه هي المشكلة، نحتاج لك 1000 سنة لتفهم معنى الحياة. ولهذا فشعارُ الكائن البشري الذي يسبّح به بكرة وأصيلا هو: «هذي ءاخر مرة نْديرْها».

كل غلطة «خاصك حتى تديرْها عاد تفهم»؛ قد نحتاج معك إلى تجربة ثانية مع الكائن الشيطاني وإعادة تصوير مشهد الأكل من الشجرة. ولا يكتمل الفهم البشري حتى تنتهي الفرصة في الحياة، وحينها نقول جميعا: (يـٰليتنا نُرد ولا نكذب بئايٰت ربنا ونكون من المومنين). ثم يقال لنا (ولو رُدّوا لعادوا) لماذا؟!  لأننا نحب التجربة الثانية. والتجربة الثانية للغلط دليل على موت هرمون الإيمان، و(لا يُلدغ المومن مرتين). ويظن قارئو الذكر الحكيم أن قصة الأكل من الشجرة خُبّيرة للحكايات المسائية قبيل النوم؛ وهي في حقيقتها مشهد إنساني وشيطاني يتكرر يوميا! فكل يوم يُقال لك: (ولا تقربا هذه الشجرة)، وكل يوم يعترض الشيطان فيقول لك: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملَكين أو تكونا من الخـٰلدين). الشجرة كل مشهد ظاهره لذيذ وباطنه حزن أليم؛ أنت متفرّج راغب، والوحي يقول: «لا تقرب»، والشيطان يقول: «إني لكما لمن الناصحين».

 ومع الذوق تبدو السَّوْءَة؛ لأن الذوق والسّوءة متفاعلان؛ وإذْ لم يفهم الإنسان بالكلام حتى جرّب وذاق وظهرت سوءته، فحينها يلتمس حواليه أي شيء من مبادئ الحياء يقتطع منه نسبة ليستر ويبرر خطأه. ويفصّل ويخيط الإنسان عذرَه ومبرراته (يخصف) من ورق لا من الجنة نفسها، لأن الورق أسرعُ للخصف، ثم هو لا يدوم.. سريع التقطع.

والأعذار الورقية تتقطع سريعا ليعود مرة اخرى للذوق، فتبدو له السوءات والسيئات؛ وانتقال الذكر الحكيم من السوءات إلى السيئات مجرد إدغام. هل تعرفون الإدغام؟! لعلكم تعرفتم على أحكام النون الساكنة والتنوين معها الإدغام! وهنا اُدغمت الياء في الواو، لأن أصل سيِّئة (سَيْوِءَة)، من السَوءة وزن فَيْعِلة؛ “سـَيـْـوِءة”.. فلما ادغمت صارت سيّئة. واختفت الواو في الياء وصار النطق كله ياء، وهذا هو الإدغام، وقارن بين [ذَوْق- سَوْء] لتفهم التلازم الطبيعي الأكواني واللغوي والصوتي، لتلازمهما في الطبيعة الكونية قبل تفاعلهما في الإرادة البشرية. فكم من الورَق نخصفه كل يوم لنستر أخطاءنا وذنوبنا؟!! ولكنه ورق؟! وهل رأيت ثيابا من ورق؟! ولذلك أبدلك الله عن الورق باللباس؛ وهو التقوى التي هي الستر الحقيقي! (يٰبني ءادم قد انزلنا عليكم لباسا يوٰري سَوءٰتكم)، ومن لم يفهم الجملة الأولى؛ أضافوا إليه جملة تفسيرية فقالوا: (ولباس التقوى ذلك خير).

إن خصف الورق لستر السيئات ليس كافيا؛ وإنما يُغني ويكفي اللباسُ من القطن والريش والخيط؛ انتبهْ (ورِيشاً). فالتوَرُّق سريع التمزُّق؛ لأنه لا يُواري السيّئات والسَوءات؛ وحين تقرأ (يواري سَوءاتكم) فهي يُواري سيّئاتكم هي هي، إلا أن السَوءة أبلغ، لأن السيئة تسوء صاحبها نفسيا بعد نهاية الذوق. ويستمر الجاهل البشري في الذوق وتكرار الذوق، لأنه لن يشبع، فالشبع في الجنة. وبعد حصول الذَوق والإحساس بالسَوء، يلوم الانسان نفسه ويقرأ على نفسه في نفسه “ألم أنهكما عن تلكما الشجرة؟!”.

فيتوب سرا (ربنا ظلمنا أنفسنا)، وحينها يهبط من درجات العبودية العليا إلى تجديد التوبة ليرقى من جديد، لأن عملية التوبة تكون بالأسفل للعود إلى الأعلى. فالتَوْب بالتاء رَجْع مُدَوّر؛ ولا يكون للتوبة معنًى تمامٌ إلا بالرجوع للمقر الأول، فيعلو الإنسان إلى جنة ربه وعبوديته حتى يعود للذوق فيعود للهبوط. وأكثر الشجرات التي نأكل منها يوميا هو النظر في وجوه الحِسَان. وقد قُرِئ فوق العشر “فيهن خَـيـِّراتٌ حِسانٌ” جمع خَيِّرة، وبعدها مباشرة (حُورٌ مقصورات في الخيام..لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان)، نذوق فقط؛ أما الأكل فَما هُم ببٰلغيه فاستعذ بالله. بل تتجمع الحسَرات للعجز عن بلوغ الأكلات، ولعل جمهور القراء اختاروا الخَيْرات حملا على (فاستبقوا الخيرات)، و(ألئك لهم الخيرات)، و(وأوحينا إليهم فعل الخيرات)، و(ومنهم سابق بالخيرات)، ولِعِلَلٍ تتعلق بالرواية، أما الحسان فهو جمع للعاقل في الأصل ولليس للمعنى الخير إلا بواسطة اعتبارية.

 وقد خُلقت المرأة في الجنة، فاكتسبت من خصائص الجنة وجمالها ما ليس عند ءادم. فكان النظر إليها فتنة لضعف الطاقة البشرية الدنيوية عن استيعاب قوة جمال الجنة الأخروي؛ فأرشده إلى الكف عن النظر رحمة به عن بلوغ ما يكون الذوق فيه سوءا لنفسه يسوء به، وهو معنى “أذهب لِلُبّ الرجل العاقل” لاكتسابه مما لا عين رأت ولا خَطَر بعقل بشر؛ هكذا بقيت مُسحة من الجنة كشجرة من الاختبار والبلاء. ومن يُقحم نفسَه في الغض؛ ويتأذى بالصبر، يـُعــوّض عنه بالرحمة والجزاء.

وكانت النظرة الأولى لك، لتعرف حقيقة الجنة؛ والثانية عليك لأن الباقي لا يُعاش في الفاني. والغضّ بعد النظر الأول ثمنٌ مسْبق لشراء الجنة، ولا بد من النظرة الأولى للتعرف على السلعة؛ لذلك كانت عملية الشراء مباشرة للنظر لا تتأخر. ومن ينظر النظرة الثانية أو يطيل النظرة الأولى -وهو انتقال سلِس للثانية مع حيلة-، فقد أبطل البَيْعة وأفسد الصفقة وأعلن عجزه عن شراء المنتوج؛ وتجمّعت في نفسه الحسرات {كذلك يريهم الله أعملهم حسرات} والعقلُ البشري أصغر من أن يستوعب الجمال الإلهي، لذلك يَفسُد طبعُه بتراكم الصور الجميلة في ذهنه كيف له أن يجمعها جميعا!!

عودا على بدء؛ الإنسان لو يسمع للنصائح التي تاتيه من الوحي، ومن العقلاء والفلاسفة وما يقرؤه في الكتب سينال أوسع نعمة وهي ربح الزمن واختصاره وفعل الخير الكثير… مع السلام.


د. معاذ الخلطي | أستاذ باحث في العلوم الشرعية واللغوية
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل