كاينابريس – تسنيم راجح(*)
أدّت مركزية الحرية في الدولة الحديثة إلى جعل هوى الإنسان ورغباته المتقلّبة مصدراً للتشريع إذا ما وجد عدد كافٍ ممن يوافق على تلك الرغبات وينادي بها ثم يدفع ممثليه البرلمانيين لتأييدها. ورغم جاذبية هذه الفكرة التي تُشعِر الإنسان بأنه بلغ غاية سموّه البشري حتى صار قادراً على صياغة قانونه واختيار نمط حياته وتغيير واقعه ضمن العمليّات الديمقراطية، إلا أنها تؤدّي نهايةً إلى ميوعة شديدة في الأخلاق والقيم، وتمنع مع الوقت وجود أيّ ثوابت حقيقية مرجعية يتحاكم المجتمع إليها على مختلف الأصعدة الحياتية.
فقداسة الحرية وسيادة الديمقراطية الشعبية تنتِج تبديلًا في الصواب والخطأ والخير والشرّ على مرّ السنوات بحسب أهواء الأغلبية المصوّتة، تلك الأهواء التي تحددها قوى التأثير من إعلام وإعلاناتٍ ومتصدرين ومشاهير، ولننظر مثالاً على ذلك التبدلات الاجتماعية وانعكاساتها الدستورية التي جرت في الولايات المتحدة الأمريكية عبر القرن ونصف الماضيين ليتبين الإشكال المقصود.
بين الماضي والحاضر
يقول الكاتب والواعظ ستيفن كوفي أن المشاكل السلوكية السبعة الأكثر انتشاراً بين طلاب المدارس الأمريكية عام 1940 كانت: “الكلام دون إذن، مضغ العلكة، إصدار الضجيج، الركض في الممرات، قطع الدور، عدم الالتزام باللباس النظامي، وإلقاء الأوساخ في الأرض”، أما في عام 1990 فقد تغيرت أبرز المشكلات لتكون: “إدمان المخدرات والكحول، الحمل، الانتحار، الاغتصاب، السرقة، والاعتداء.”[i] وهذا ما يختصر صورةً كبيرة من التّبدّل الاجتماعي الذي جرى في البلاد في فترةٍ قصيرة نسبياً.
أما أثر التبدل الاجتماعي على صعيد اللباس فهو واضح ويحكي قصة تغيّر الناس إلى حدٍّ كبير، فقد كانت النساء تلتزم الثياب الطويلة الفضفاضة بصورة شبه تامة حتى بدايات القرن الماضي[ii]، وكان الستر دليلاً على الرقيّ الاجتماعي والثراء الاقتصادي، والتكشّف علامةً على الاستعباد أو الفقر الشديدين، بينما نرى النساء الثريات اليوم لا يمانعن الظهور بثياب لا تغطي سوى نسبة صغيرة من أجسادهنّ، ولا يستغرب أحدٌ ذلك أو ينكره، بل إن النساء يفتخرن باتباع الموضة التي باتت في كثيرٍ من الأحيان متمثّلة ببناطيل ممزقة أو ألوان يبدو عليها البلاء.
لقد كان فكر المجتمع يعكس المحافظة والالتزام ببعض أخلاقيات الدين المسيحي الذي حمله الآباء الفاتحون معهم، إلا أن الحال تبدل إلى حدّ كبيرٍ اليوم، فبينما كان الشعب محافظاً مفتخراً بتدينه بصرةٍ عامّة سابقاً، باتت نسبةٌ عالية منه تتبرأ من أي دينٍ اليوم، وتظهر التقارير أن نسبةً تزيد على 70% من الأمريكيين وصفوا الدين بأنه جزءٌ مهم من حياتهم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، بينما انحدرت النسبة إلى 56% عام 2007، وفي عام 2016 اعتبر حوالي ثلث الشباب دون الخامسة والثلاثين نفسهم غير منتمين لأي ديانة على الإطلاق.[iii] أما آثار ذلك على تمييع الالتزام بمحتوى الأديان فهي مما لا يخفى على أي متابعٍ للأخبار، ففي عام 1987 لم يوافق إلا 32% من الأمريكيين على زواج المثليين في البلاد، بينما ارتفعت النسبة إلى 72% عام 2020.
المرغوب يحدد القانون
إن الحديث عن تغيّر رغبات الشعب وميوله لا يتوقّف في الدولة الليبرالية الحديثة عند وصف سلوكيات أفرادٍ أو جماعاتٍ محددة، ولا يعني وصف الفكر الرائج أو نمط حياة البعض فحسب، إنما يتعدّاها ضرورةً نحو ما هو قانوني ومسموحٌ، وكذلك ما يجب على الشعب بصورةٍ عامةٍ أن يقبله وما ينبغي أن تكرّس أموال ضرائبه له، وبالتالي فإن القيم والأخلاق والمعايير التي تتوارثها الأجيال في تقييم الخير والشر تغدو سائلة تابعةً لرغبات الناس وما يريده كلّ واحدٍ منهم في عالمٍ منقطع تماماً عن الثوابت الغيبية المتجاوزة للزمان والمكان.
لقد آل تقديس الحريّات لأن يختار أصحاب الصوت المرتفع والقادرون على التأثير في الرأي العام القيم التي يريدون لها الظهور والقبول في المجتمع، فصار التعري حرية شخصيّة، والرذيلة المقننة دليل قوة واستقلالية، والإجهاض علامة حرية، وكل ذلك مع انتشار الفساد الأخلاقي والديني بالصورة التي يحبها الناس ويريدونها حتى بات احترامه وقبوله واجباً على الجميع باعتباره جزءاً من القانون الجديد، وبينما كانت الشرطة تقتحم نوادي الشواذ في ستينات القرن الماضي،[iv] فإن أي تعاملٍ مميّزٍ بأي شكلٍ مع مجتمعهم الآن يعتبر جريمةً قانونية يعاقب فاعلها، وبينما كانت عيادات تنظيم الأسرة (التي تقدم وسائل منع الحمل والإجهاض) ممنوعة عام 1915، فإن أدوية منع الحمل باتت متاحةً للفتيات منذ سن الخامسة عشرة اليوم، وتقوم شركات التأمين الصحي بتغطيتها كذلك.[v]
ولعلّ هذا نتاج فصل المجتمعات عن أي شرعٍ متجاوز ثابت، واتخاذ القرار منذ نشوء تلك الحكومات بأنها موجودة لتؤمن حريات الأفراد وحقوقهم وتضمن العملية الديمقراطية التي ترضيهم، مع وجود تعريفاتٍ شائكة ومبهمة للحريات والحقوق وحدودها وما ينبغي لها أن تكفله وتتوقف عنده، بات الناس يرون من حقهم الحصول على أي شيءٍ يريدونه، ومخالفة أي شيءٍ يريدونه إن كان هناك من يكفي لدعمهم وجعل الأمر قانونياً عندهم.
وهذا ما يبدو واضحاً وصعب التبرير في الفروق القانونية الموجودة بين الولايات الأمريكية اليوم، والتي تعكس في كثيرٍ منها أخلاقياتٍ مجتمعيةٍ باتت سائلةً تماماً ولا يمكن للفرد الأمريكيّ ذاته الدفاع عنها إن خرج من ولايةٍ لأخرى. فعلى سبيل المثال، يعتبر تناول الماريغوانا لأي سببٍ ممنوعاً قانونياً تماماً في ولاية South Carolina، لكن بمجرد الخروج منها إلى جارتها District of Columbia فإن الأمر يصير متاحاً للاستخدام الطبي والترفيهي أيضاً.[vi]
إلى أين؟
ولعل القارئ يتساءل هنا عن سبب الاعتراض طالما أن الفرد الغربيّ ينال حقوقه اليوم بكرامةٍ وحريّة، ويتمتّع بالقدرة التصويت على ما يريد وضد ما يريد، بعكس الفرد في البلاد العربية الذي لا يملك في الحقيقة أن يعمل أي تغيير في واقعه الذي تحكمه الديكتاتوريات ويسود فيه الاستبداد والفساد..
والحق أن هذه مقارنةٌ مخالفةٌ للمقصود، فإننا لا نزعم حين ننقد الوضع في البلاد الغربية أن نظيرها في البلاد العربية اليوم هو الهدف المنشود، إذ كلاهما تمثّلاتٌ علمانيّةٌ حقيقةً، لكنّ أحدها يسوده بعض الفاسدين والآخر تظهر فيه أهواء الجماهير، إنما المقصود هنا هو الإشارة للانحدار والإفساد الكبيرين اللذَين يؤدي إليهما تحييد الوحي والاستغناء عنه بمركزية البشر التي تؤدي ضرورة إلى مركزية الشيطان الذي يغدو بدوره الحاكم على حياة الشعوب علمت ذلك أم جهلته.
فالفرد الغربيّ حين يدّعي التحرر من الدين والأعراف والارتقاء إلى نموذجٍ خيرٍ مما كان عليه آباؤه وأسلافه إنما يصير في حقيقته مستعبداً للشيطان وما يمليه عليه على أنه رغبته الذاتية وصورة انعتاقه ورقيه وتقدّمه، ولعل المتأمل في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام لأبيه يظهر له هذا المعنى، إذ قال: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖإِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، رغم أن آزر كان عابداً للأصنام لا للشيطان ذاته بصورة مباشرة، وهذا ما قال فيه المفسرون أن طاعة الشيطان في عبادة الأصنام هي عبادةٌ له، لأن من أطاع شيئاً في معصيةٍ فقد عبده،[vii] كما يظهر في قوله تعالى أيضاً: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}، لأنه هو من يأمر بالشرك والمعاصي ويزيّن المبدعات من المنكرات للبشر في كلّ جيل.
وهذا تحديداً هو ما نرى انعكاسه في المجتمعات الغربية التي حوّلت تدريجياً الرذيلة إلى فضيلة، وغيرت معاييرها ومنظوماتها الأخلاقية لتكون متمركزة حول حماية الأهواء والرغبات ومجرّمة لكل من يرفضها أو يحاول تقييمها وفق أي معيارٍ ديني لم تغيّره السنين ولا أثرت به جماعات الضغط وضوضاؤها. فبات الرافض للشذوذ منمَّطاً بصفته “هوموفوب” كما يوصف الذي يستاء من العري والتكشف بأنه “رجعيّ” أو “كاره للنساء” وعلى هذا تقاس أمورٌ كثيرةٌ نرى التعصّب فيها ضد المتمسّكين بأديانهم والمخرجين لها إلى حياتهم العملية بكلّ وضوح.
فهل من الطبيعي أن يكون هوى الإنسان مؤلّهاً مطاعاً كما نرى هناك؟ وأيّ ضررٍ ذاك الذي تجرّه تلك الخدع والأوهام على أهلها المستعبدين للشيطان وهي يجرون وراء أي رغبةٍ أو مطلبٍ يعرض لهم دون اعتبارٍ إلا لتحقيق ما يريدون ونيل أكبر قدرٍ ممكن من الرفاهية في السنوات القصيرة التي سيقضون هنا قبل الموت والفناء؟
(*) كاتبة، أخصائية بالتغذية العلاجية في سانت لويس وعضو في أكاديمية التغذية الأمريكية.
الهوامش والإحالات
[i] Stephen R. Covey. The Seven habits of highly effective families. 1997.
[ii]1890-1899 | Fashion History Timeline (fitnyc.edu)
[iii] American Religion Has Never Looked Quite Like It Does Today | HuffPost
[v] Clayton, E. W., & Butler, A. S. (Eds.). (2009). A review of the HHS family planning program: mission, management, and measurement of results.
[vi] How marijuana laws are different between states (usafacts.org)
[vii] تفسير القرطبي وابن كثير.