كاينابريس – د. علاء الدين بنهادي(*)
ليس سهلا ولا ممكنا أن تلعب الملكية في أي نظام سياسي كل الأدوار السياسية لدى القوى الموالية أوالمعارضة لسياساتها أو حتى من يصطلح عليهم بـ”رجال المخزن”، كما لا يمكن للملكية أن تكون برلمانية تسود ولا تحكم إلا بالتعاون مع قوة سياسية وطنية مستقلة ونزيهة من خارج هذا المشهد الحزبي المتردي بكل ألوان طيفه، ولا يحق لأي شخص أو جهة أن ترسم معالم المستقبل السياسي للمغرب وتؤثث المشهد السياسي والحزبي لضمان مرور آمن لمن سينتقل إليه الحكم، كأنها ترسم لوحة فنية للطبيعة، إلا إذا كانت هذه الجهة أو هذا الشخص يقصد تحديد دور كل قوة حزبية وسياسية وحجمها وموقعها وحصتها لتحصل على مقعد في مسرح الأحداث القادمة، وهذا، لعمري، أخطر على الملكية من أي شيء آخر.
نشر الصحفي مراد بورجي بهذا الخصوص مقالان في فبراير ويوليو من السنة الجارية تحت عنوان، الأول: “إلى أين يسير القصر بالمغرب؟”، والثاني: “حلول ذكرى الجلوس الفضية في غياب الجدية والإعداد للملكية البرلمانية”،قدم فيهما حصيلة مرة للأحزاب المرتبطة سياسيا وعضويا بدوائر القصر، “البام” و”الأحرار”، وهما حزبان لهما أصول في مغرب ما بعد الاستقلال التبعي، “الحركة الشعبية”، 1957، و”الفديك”، 1963، إلا أن الصحفي مراد حاول أن يقوم بكل الأدوار نيابة عن الملكية وعن المخزن العميق في آن واحد، حيث شخص بنجاح حالة هذه الأحزاب اليوم، وهي تقود جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والترابية، وما أصبحت تمثله من عبء على الملكية نفسها ومن عصيان للآباء الروحيين المؤسسين لها، المخزن العميق، ثم تحول للحديث عن مستقبل الملكية وانتقالها إلى ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم، ثم قدم جردا أسودا لحالة باقي الأحزاب، يسارية وليبرالية وإسلامية، ونعتها بأنها غير مؤهلة لمواكبة الملكية في تطورها وبنائها السياسي والدستوري الجديد من أجل مغرب الملك الحسن الثالث ومغرب الملكية البرلمانية، وأنهى مقالتاه بالتأكيد على حاجة الملكية والمغرب لنخب جديدة ليس لها ماض حزبي أو سياسي ثقيل من ناحية الذمة الأخلاقية والمالية والسياسية.
إن حالة الأحزاب اليوم ببلادنا هي نتيجة حتمية لتدخل رجال الديوان الملكي في شؤون الأحزاب منذ فجر الاستقلال، وهذا يعلمه الأساتذة والباحثون في علم السياسية وفي التاريخ السياسي المغربي المعاصر، ويعلمه قادة الأحزاب الوطنية، وكان المثال الأبرز بهذا الشأن هو حكومة الراحل عبد الله إبراهيم، 1958-1960، حينما أسقطها ولي العهد آنذاك من داخلها، الملك الراحل الحسن الثاني، كذلك تجربة أخرى تؤكد علاقة الملكية بشؤون وصراع الأحزاب، وهي تجربة “الفديك”، جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية، والتي كان وراء تأسيسها مستشار الملك أحمد رضا اكديرة يوم 20 مارس1963، تجربة أعقبتها الأحداث الدامية بالدار البيضاء يوم 23 مارس عام 1965، وانتهت بإعلان حالة الاستثناء في السابع من يونيو من نفس السنة، تلاها اغتيال الزعيم الاتحادي المهدي بن بركة بباريس في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1965، ثم سقوط حكومة “الفديك” برئاسة أحمد باحنيني في الثالث من نوفمبر 1965، لتصاب المؤسسات المنتخبة بالشلل الوظيفي التام، وتدخل البلاد في نفق مظلم وحقبة سوداء من الاغتيالات السياسية اصطلح عليها فيما بعد بـ“سنوات الجمر والرصاص”.
وذكر الصحفي مراد في مقالاته بأن الأحزاب، خاصة تلك التي ولدت في الحاضنات الاصطناعية، ويقصد بذلك “الحركة الشعبية” و”الفديك” و”الأحرار” و”البام”، وإلى حد بعيد حزب “العدالة والتنمية”، بأنها لم تعمل بالتوجيهات الملكية بشأن تخليق الحياة السياسية والاهتمام بالأساس بالمصالح الوطنية ومصالح الشعب، وهو ما اعتبره مخالفة تستوجب وقفة سياسية ومحاسبة لقادة هذه الأحزاب المنتهية صلاحيتهم، حسب تعبيره، ولا يمكن أن يكون لقادتها أي دور في المشهد السياسي القادم.
إن في هذا الكلام والتحليل تجاوزا للملكية نفسها وتدخلا في شؤون الحكم ومستقبل العرش، والصحفي مراد لا يحمل، في علمي، أي صفة رسمية تخول له قول ذلك، بل إن قوله بأن الأحزاب لا تمتثل للتوجيهات الملكية فيه مساس بالملكية وبالملك شخصيا إذا ما صح ذلك الزعم، لأن عدم اتباع الأحزاب للتوجيهات الملكية يعني أن الخطب والتوجيهات الملكية لم يعد لها اعتبار عند الأحزاب، رغم أن هذا الربط، بالمناسبة، ليس مقياسا لمعرفة تقدير الأحزاب لشخص الملك وللملكية، ولا ينبغي أن يكون، خاصة وأن الصحفي مراد يؤكد بأن الملكية تتوجه نحو ملكية برلمانية يسودها فيها الملك ولا يحكم، ولم يقدم أي دليل على ذلك سوى تصريحات سابقة لبعض مستشاري الملك. يخبرنا التاريخ السياسي العالمي بأن تحول الملكيات الأوروبية من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية لم يكن في الأصل بإرادتها، وإنما بسبب نضالات القوى السياسية والاجتماعية وضغطها مما حمل هذه الملكيات على الاختيار بين الزوال وبين الملكية الدستورية، فما هو وضع الملكية المغربية حسب هذه المقابلة بين الاختيار الدستوري والأفول الحتمي؟
إن ما يجب أن يدعو إليه الصحفي مراد، ونحن معه في هذا، هو إصلاح النظام السياسي، وإصلاح الأعطاب الحزبية والسياسية التي تسبب فيها، خاصة هذه الأحزاب “المنحرفة عن التوجيهات الملكية”، كما قال الصحفي مراد، كما حصل مع “الفديك”، ومساعدة الملكية للتحول نحو نظام دستوري يسود فيه الملك ولا يحكم لضمان مستقبل أفضل، كما عليها ألا تترك أي فراغ في مهامها وعملها يمكن أن تملأه جهات وشخصيات أخرى تتحدث باسم الملكية، بما فيها القوى الحزبية والسياسية، أو المخزن العميق. يجب على الملكية، وعلى من يدافع عنها، أن تعتني بوضعها وبدورها وبمستقبلها في نظامنا السياسي، وأن تترك مستقبل الأحزاب بيد الشعب المغربي والناخبين للحكم عليه في تعبيراتها المختلفة المستقلة عبر التعبير الإرادي الحر. هذا ما يمكن أن يجعل الملكية بعيدة عن الحسابات الضيقة للسياسيين والنفعيين الذين يتحدثون باسمها.
دعونا ننعش الذاكرة شيئا ما، من عين باشا وجدة وضابط الجيش الفرنسي مبارك البكاي لهبيل رئيسا لأول حكومة بعد الاستقلال وليس قياديا من قادة الحركة الوطنية؟ من كان وراء تأسيس “الحركة الشعبية” عام 1957؟ من كان وراء الأحداث الدامية في الريف عام 1959؟ من أسقط حكومة الراحل عبد الله إبراهيم عام 1960؟ من فرض الدستور الممنوح عام 1962؟ من أسس “الفديك”،)جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية( عام 1963؟ من أعلن حالة الاستثناء وأبطل عمل المؤسسات الدستورية عام 1965؟ من كان وراء تصفية أحد رجالات جيش التحرير المسمى شيخ العرب، أحمد أكوليز، عام 1964؟ من كان وراء قرار مواجهة انتفاضة الدار البيضاء الدامية في الثالث والعشرين من مارس عام 1965؟ من كان وراء اغتيال زعيم “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” المهدي بن بركة بباريس في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1965؟
من كان وراء تأسيس “التجمع الوطني للأحرار” عام 1977؟ من كان وراء الأحداث الدامية في محطات متتالية أعوام 1981-1983-1990؟ من أوصل البلاد لحالة “السكتة القلبية” عام 1996؟ من كان وراء تأسيس حزب “العدالة والتنمية” عام 1998؟ من أفشل تجربة الانتقال الديمقراطي عام 2002؟ من أسس حزب “البام” عام 2008؟ من ضيع الموعد مع الإصلاح السياسي والدستوري الحقيقي مع حراك حركة 20 فبراير عام 2011؟ من كان وراء “البلوكاج” عام 2016 لمنع عبد الإله بنكيران من رئاسة الحكومة لولاية ثانية؟ من جاء بحكومة الأمر الواقع في الثامن من سبتمبر عام 2021 لتتحكم في جميع مؤسسات الدولة الدستورية والترابية؟ من يحمي حكومة وأحزابها فيما عدد كبير من نوابها ورؤساء جماعاتها يحقق معهم ويتابعون في قضايا فساد ونصب ومخدرات وتضارب مصالح وهدر للزمن السياسي ولا يتركها تسقط أمام احتجاجات المواطنين في أكثر من محطة؟ ننتظر من الصحفي مراد بورجي، وآخرون يتبنون نفس الخطاب والموقف، أن يجيبنا على هذه الأسئلة التي لازالت تفتح جراحا غائرة في ذاكرة المغاربة وتعطل الانتقال نحو مستقبل أفضل للمغرب.
لقد أجابت الملكية، في الحقيقة، عند بداية العهد الجديد عام 1999 على هذه الأسئلة في تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة حول سنوات الرصاص، 1961- 1999، وأقرت بمسؤولية الدولة ورجالاتها في ارتكاب جرائم فظيعة في حق المناضلين خلال تلك الحقبة السوداء، وحاولت جبر ضرر ذوي الضحايا والضحايا الأحياء، وكانت هذه خطوة إيجابية في اتجاه المصالحة بين النظام السياسي والشعب المغربي ونخبه، وليس في هذا الاعتراف بالمسؤولية تعريض بالملكية أو تحميلها لوحدها مسؤولية الأوضاع المتردية، وإنما هذا جرد سياسي وتاريخي لابد منه، وإنما لتذكير الصحفي عادل بورجي، بأنه من أدبيات التشخيص لأي وضع أو حالة، لابد أن يكون دقيقا وعلميا ومسؤولا ومتوازنا، إذا كانت الرغبة والنية في بناء تصور ومشروع لتجاوز حالة المراوحة والخلل التي لم تستطع الدولة والنخبة الحاكمة الخروج منها حتى الآن، فضلا على أن تتحدث عن مستقبلها السياسي بنفس الأسلوب ونفس البروفايلات والمعايير.
إن الانتقال بالملكية نحو النظام البرلماني، حيث تسود ولا تحكم، حتى لو كان بقرار أحادي من الملك، يقتضي وجود إرادة مشتركة بين جميع الفاعلين الحقيقيين الذين يمثلون نبض الشارع المغربي ويؤمنون بمستقبل رائد وفعال للدولة المغربية كما كانت في الماضي البعيد، ولأن الملكية جربت منذ الاستقلال كل هذه المناورات الحزبية السياسية المشار إليها أعلاه، واعتمدت على جهاز المخزن للقيام بذلك، واستقطبت نخبا من داخل الأحزاب ومن الأوساط الجامعية والفكرية ومن مختلف الانتماءات الإيديولوجية، فإننا اليوم، والملكية كذلك، قد ارتطمنا بالجدار، وأصبح لزاما على السلطة الحاكمة إجراء عملية استئصال للزوائد والفطريات وللتغول الذي أصبحت عليه هذه الكائنات الحزبية والسياسية الميركانتيلية والانتهازية، وإلا سيبقى الحديث عن الملكية البرلمانية والتأسيس لعهد الملك الحسن الثالث، كما بشر بذلك الصحفي مراد بورجي، مجرد مناورة سياسية تشبه كثيرا ما قرأنهعن انتقال الحكم من السلطان الراحل محمد الخامس إلى الملك الراحل الحسن الثاني، وما عايشناه مع انتقال الحكم من الملك الراحل الحسن الثاني إلى وريثه العاهل محمد السادس. سيكون هذا الحديث مجرد مناورة لتدبير مرحلة الانتقال والالتفاف حول الملك الجديد، ثم تعود حليمة إلى عادتها القديمة.
نقول للصحفي مراد بورجي، تكفل بالجهة التي تمثلها وتتحدث باسمها، وهي الملكية ونخبتها وأحزابها ورجالاتها داخل دائرة المخزن العميق، لأن المشكلة في بعض الأحيان قد لا تكون في السلطة الحاكمة مباشرة، وإنما في هياكل السلطة وأجهزتها القريبة منها وروافدها وفي بنيتها، المخزن العميق تحديدا، وأدرعه السياسية والاقتصادية والأمنية والقضائية والإعلامية، كما هو حال حكومة الأمر الواقع بقيادة الملياردير عزوز أخنوش وتحالفه مع حزب “البام”، والحليف التاريخي اليميني للسلطة، حزب “الاستقلال”، حكومة منذ أن مُكنت من مؤسسات الدولة في واقعة الثامن من سبتمبر 2021، أدخلت المغرب والمغاربة، بل والملكية أيضا، في أزمات لا متناهية، حكومة لا تقدم أي حلول واقعية وناجعة لمشاكل المغاربة سوى الاعتقالات والمحاكمات والمكابرة والاستعلاء والرقص على الجراح وملفات المتاجرة في المخدرات والنصب ونهب الملك العام والإثراء غير المشروع والاختراق الصهيوني للنسيج الاقتصادي والاجتماعي والقيمي.
هناك إمكانية أخرى نعرضها في هذه المقالة على الصحفي مراد بورجي، ومادام أننا نتحدث عن الوطن المشترك وبناء مستقبل أفضل للمغاربة، وفي بيئة سياسية شفافة، وبروح حضارية مسؤولة، وهي تنظيم لقاءات حوارية حول طبيعة النظام السياسي الذي نطمح له جميعا، بما فيه الملكية كما يردد الصحفي مراد بورجي وآخرون، وتدعوا إليه النخب الجديدة غير المهيكلة، بحضور وتغطية إعلامية مسؤولة ومهنية وأمام الرأي العام الوطني، لقاءات حوارية تؤطر لهذا الخيار الوطني الأوحد والأخير، وتنطلق من ركائز أساسية، وهي دولة المؤسسات والقانون يقف الجميع أمامها على نفس المسافة وتبتعد فيها كل المرافق العمومية بقوة القانون عن المنافسة السياسية التي تقع بين المؤسسات الدستورية والسياسية، ودستور يعبر حقيقة عن إرادة المغاربة وعن المرجعية الدينية والحضارية للمغرب ويتم صياغته من قبل هيئة منتخبة ومستقلة، ويؤسس للمرحلة السياسية القادمة بروح البناء والشراكة، وأن يتحمل النظام السياسي مسؤوليته السياسية والأخلاقية والتاريخية بشأن مخرجات وتوصيات هذه المبادرة الحوارية، للوصول بكل هذا إلى حكومة وطنية مستقلة ونزيهة وبرلمان في مستوى اللحظة التاريخية والتطلعات المستقبلية، وذلك من أجل تجنيب الوطن والمجتمع والدولة أي منزلقات غير محسوبة تدخلنا، جميعا، في نفق مظلم بلا أفق، وتكشف ظهر الجميع أمام أعداء الأمة المغربية في محيطها الجيوسياسي والدولي المضطرب والعدواني.
(*) دبلوماسي سابق، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية.