انتحر التاريخ فهانت الجغرافيا.. ابتلاع رفح

وائل قنديل18 أبريل 2025
وائل قنديل

ما يجري تحت أعين العرب منذ أسبوعَين (أو أكثر) أن مدينة عربية كاملة يجري ابتلاعها في جوف عدو لا يشبع، من دون أن تصدر ردّة فعل واحدة، فردية من الأشقاء دولِ الجوار الأقرب إلى هذه المدينة، أو جماعية من الأشقاء العرب الأبعد، إذ تمضي إسرائيل في إتمام إعادة احتلال رفح، جنوبي قطاع غزّة بشكل كامل، معلنةً إلغاء واقع الاتصال الجغرافي بين مصر وفلسطين.

احتلال استعماري قرّر أن يعيد فرض نفسه جاراً وحيداً لمصر العربية من جهة الشرق، بعد إلغاء الوجود الجغرافي الفلسطيني فيها، أمرٌ من المفترض نظرياً أنه أشبه بزلزال تهتزّ له المنطقة العربية كلّها، فلا يهدأ لها بال حتى تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح حضارياً وقانونياً وسياسياً، على نحو ما فعلت هذه الدول قبل 35 عاماً، حين استيقظت على ابتلاع الكويت، فراحت تحشد الجيوش والقدرات وتستدعي الأساطيل الأجنبية لاستعادتها.

شيء ممّا تراه في رفح الفلسطينية، حصل (وما زال يحصل) في الجغرافيتَين السورية واللبنانية، إذ يلتهم الكيان الصهيوني مساحاتٍ من الأراضي في غمرة الاحتفالات بالنظامَين الجديدَين في دمشق وبيروت، فلا تسمع أن المجموع العربي انزعج أو غضب أو أقدم على فعل سياسي (لا نقول عسكرياً) يوقف هذه العربدة الصهيونية التي تخترق الحدود وتغتصب الجغرافيا. مثلاً، لم نسمع عن علم صهيوني أُنزل  من فوق مبنى سفارة من السفارات المنتشرة كالجراد في الجسد العربي، ولم نعرف أن قُطراً عربياً قرّر أن يجمّد، أو يلوّح بتجميد تعاونه التجاري والاقتصادي مع العدو، الذي لم يعد يكتفي بالوقوف متحرّشاً على الأبواب، بل صار يفتح الباب بقدميه ويدخل، من دون أن يتصدّى له أحد.

في موضوع إعادة احتلال رفح، نحن أمام مصادرة مدينة عربية من خلال عملية إلغاء للوجود الفلسطيني فيها، بحيث لا تبقى هناك حدود مصرية فلسطينية مشتركة، إذ سيكون المقابل لرفح المصرية هو رفح يهيمن عليها الاحتلال عسكرياً وإدارياً، لتصبح منطقةً عازلةً بين مصر وشمال قطاع غزّة، وكما قالت حركة حماس في بيان لها، إن “المقصود هو عزل غزّة عن العمق العربي تماماً”. والنتيجة الوحيدة لهذه العملية حال استمرار الصمت والتسليم بها واقعاً جغرافياً وسياسياً جديداً، أن معبر رفح (المصري الفلسطيني) سوف ينتهي عملياً ويتحوّل نقطةَ حدود بين مصر والكيان الذي يحتلّ المعبر فعلياً منذ اجتياح رفح في العام الماضي (2024).

كان من المُتصوَّر أن هذا الأمر يدقّ نواقيس الخطر كلّها في مصر، ويضع أجهزة الدولة كافّة في حالة استنفار، إذ ليس أمراً عادياً أن تصحو دولةٌ على تغيير هُويَّة الجار الواقع في حدودها، الذي هو شقيق لها، ويمثّل عمقها الاستراتيجي من جهة الشرق، وقدوم جار جديد هو في الأصل عدو لها ولشقيقها، وكان يحتلّ أراضياً لها نحو 20 عاماً، حتى تحرّرت بالدم. تبحث عن ردّات الفعل المصرية على هذه العملية، التي بدأت بعد التظاهرات المُسيَّرة من المحافظات المصرية إلى شمال سيناء للهتاف للنظام ضدّ التهجير، فلا تجد في البيانات العديدة التي تصدرها الخارجية المصرية ذكراً لما تفعله إسرائيل في حدودها، من إعادة فرض سيطرتها العسكرية والإدارية على رفح، تجد بيانات فقط تندد باستمرار الأوضاع المعيشية السيئة في قطاع غزّة، ومنع دخول المساعدات الغذائية واستهداف المستشفيات.

هذا الهوان الجغرافي لم يكن ليحدث لولا هذا الانتحار التاريخي المتواصل، الذي تحترق فيه الأسماء فيصير الشقيق جاراً، والعدو أيضاً جارٌ، بل حليفٌ وشريك اقتصادي، وتبتّل معاني الأشياء، لتصبح مقاومة الاحتلال إرهاباً، أو بالحدّ الأدنى عملاً متهوراً يعرّض مصالح الأمّة الأليفة الوديعة للخطر، على نحو ما يتّفق عليه سلفيو الأجهزة الأمنية، ومفتى الدولة المصرية، ويصير الانكفاء على الذات والتقوقع داخل الحدود منتهى الحكمة، وليذهب أشقاء الجوار القريب إلى الجحيم وحدهم، تشيّعهم بعض دموعٍ تسيل في المواعيد الرسمية، وبعض عباراتِ التعاطف المجفّف، التي ترى استخدام القوة في غوث الشقيق المُعتدى عليه جنوناً يضرّ بمصالح الوطن.

يبقى أن هذا الهوان في الجغرافيا الخارجية يقابله هوانٌ آخرُ لجغرافيا الداخل، التي تتعرّض للمحو والإلغاء، باسم التطوير والاستثمار، لتتحوّل مساحاتٌ هائلةٌ في مدن ومحافظاتٍ مناطقَ نفوذٍ تخضع لهيمنة الاستثمارات الأجنبية، دولاً وأفراداً، تماماً كما أن هوان التاريخ لم يشمل المرتكزات الأساسية للهُويَّة القومية فقط، بل طاول كذلك المعالم الحضارية والمعمارية التي تعرّضت للهدم والإزالة والتشويه.


وائل قنديل | صحافي وكاتب مصري
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل