كثيرا ما يعبّر الانخراط الجماعي المكثف في مناقشة أحد المواضيع، عن ميل إلى القراءة المحافظة والمستكينة إلى اليقينيات المسبقة، من حيث يريد البعض أن يساهم في فهم الأحداث وتفسيرها.
هذا ما يحدث حاليا مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وفقا لنتائج انتخابات 5 نونبر 2024.
نحن أمام مرشح الحزب الجمهوري الذي نعرفه خير المعرفة، وندرك المعالم الكبرى لاختياراته السياسية والأيديولوجية، بل وأمام الشخص نفسه الذي عرفه العالم طيلة أربع سنوات، من 2016 إلى 2020 كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية؛ لكن من الخطأ القيام بإسقاطات سريعة للمدخلات التي احتفظنا بها منذ ثماني أو عشر سنوات (برز ترامب كمرشح محتمل لخلافة أوباما منذ 2014 على الأقل).
ترامب 2024 الذي سحق منافسته، المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس، ليس هو نفسه الرجل الذي فاز على مرشحة ديمقراطية أخرى اسمها هيلاري كلينتون عام 2016، ولا السياسي الجريح نفسه الذي انكسر عام 2020 أمام المرشح الديمقراطي المسنّ جو بايدن.
وأول ما يجدر تسجيله ونحن نحاول استطلاع أحوال العالم بعدما قرر الشعب الأمريكي إعادة ترامب إلى البيت الأبيض لأربع سنوات مقبلة، هو أن الرجل عاد لاعتبارات وحسابات أمريكية داخلية، وبالتالي لا تشكل السياسة الخارجية سوى تفاصيل هامشية سيبصمها ترامب بلمسته الخاصة دون شك، لكنها تنضبط في جميع الأحوال لحسابات المصالح الأمريكية الاستراتيجية.
وإذا كان هذا البعد الداخلي يهمنا أيضا بشكل من الأشكال، لأنه سيكون عنصرا مؤثرا في الاختيارات الخارجية، فإن خلاصة ما أنتجته الصحافة الجادة والمراكز البحثية الموثوقة في اليومين الماضيين، هي أن الأمريكيين لم يصوّتوا لترامب بقدر ما صوّتوا ضد الديمقراطيين.
لم يكن في خطاب ترامب طيلة حملته الانتخابية ما يسعف في تفسير إقبال الناخبين الأمريكيين على التصويت له يوم الثلاثاء الماضي، بقدر ما تجد جل الكتابات تفسير ما وقع في أخطاء الديمقراطيين.
لقد كانت كمالا هاريس، ومن خلفها الرئيس السابق باراك أوباما، يعملان لمصلحة ترامب من حيث كانا يعتقدان أنهما يستثمران في القواعد التاريخية للحزب الديمقراطي، فقاما بتعبئة غير مسبوقة للكتلة المسيحية البيضاء (بيضاء البشرة)، بنسائها ورجالها، عندما وجّها خطابهما الدعائي إلى الأمريكيين السود.
كما دفع الديمقراطيون فئة “اللاتينوس” إلى التصويت لصالح ترامب في هدية لم يتوقعها هو نفسه، عندما أثاروا فزعهم بخطاب الانفتاح على أنظمتهم التي هربوا من فقرها ومن ايديولوجياتها اليسارية وأذرعها الأمنية القمعية.
المؤكد أن دونالد ترامب الذي ترشح وفاز في عام 2024 يختلف عن شخصيته وسلوكه قبل عشر سنوات من عدة نواح، حيث يظهر هذا التغير في سلوكه، ومواقفه، وفي أسلوبه الخطابي أولا، حيث كان ترامب السابق معروفا في المقام الأول كرجل أعمال وشخصية إعلامية، وكان حضوره العلني يستند على لغة الإعلام والترفيه، وركز على بناء صورته كشخصية بارزة في الإعلام الأمريكي.
لقد كانت لترامب علاقة وثيقة مع الإعلام التقليدي، القوي في أمريكا، حيث كان يسعى دائما للبقاء في دائرة الضوء، وكان يميل إلى استخدام الإعلام لبناء شعبيته كشخصية معروفة.
أما اليوم، فقد أصبحت علاقته بالإعلام عدائية بشكل أكبر، حيث يهاجم بانتظام ما يسميه “الأخبار الكاذبة” ووسائل الإعلام الرئيسية. كما يعتمد بشكل أكبر على وسائل الإعلام البديلة ومنصات التواصل الاجتماعي للتواصل المباشر مع جمهوره ونقل رسائله دون تدخل تحريري.
في حملته الرئاسية الأخيرة، فقد أصبح ترامب أكثر صلابة في خطابه، ويميل إلى استخدام لغة تعكس توجهات القاعدة الشعبية التي تدعمه، متبنيا لغة قومية قوية ونبرة تركز على المخاوف الأمنية والوطنية. كما طوّر أسلوبا يعتمد على النقد اللاذع والتحدي المباشر، ما يجذب شرائح معينة من الناخبين الذين يرون فيه قائدا غير تقليدي.
ومن حيث المواقف السياسية، لم يكن ترامب في السابق منخرطا بشكل مباشر في السياسة الأمريكية، ولم تكن له مواقف ثابتة في القضايا المحلية أو الدولية. كما كان يُنظر إليه على أنه يميل إلى الوسطية في بعض القضايا تجنبا لاتخاذ موقف، وظهرت آراؤه بشكل عام كتعليقات سطحية على بعض السياسات.
لكن وبعد سنوات من تواجده في البيت الأبيض ثم في “المعارضة”، تطورت مواقفه السياسية إلى توجه أكثر وضوحا وقومية.
وبات ترامب يقدم رؤية مبنية على تجاربه في فترة رئاسته السابقة، مع التركيز على اتباع سياسة خارجية صارمة تعتمد على تعزيز قوة الولايات المتحدة أمام الخصوم التقليديين (مثل الصين وإيران) وتقليص التدخل الأمريكي المباشر في بعض النزاعات الخارجية، وتوجيه الموارد لحماية الأمن القومي.
أما بالنسبة لنا في المغرب، فأعيد حرفيا ما كتبته هنا منتصف يوليوز الماضي، فإن بمقدورنا مبدئيا أن “ننام” على “جنب الراحة”، لأن عودة ترامب إلى البيت الأبيض ستكون إيذانا ببدء فترة ازدهار كبير في العلاقات المغربية الأمريكية، بما أن جل “استثمارات” المغرب في هذه العلاقات، تصبّ في حوض الحزب الجمهوري. والمقصود هنا الاستثمارات السياسية والدبلوماسية.
وإلى جانب كونه الرئيس الذي وقّع قرار الاعتراف بمغربية الصحراء في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض عام 2020، فإن ترامب يعود إلى البيت الأبيض وفي حقيبته خطة تمكين إسرائيل من تطبيع شامل لعلاقاتها بمحيطها العربي. وهنا، لابد من الاعتراف بأن المغرب سيكون في وضع مريح نسبيا.
ليبقى السؤال الذي طرحه أستاذ العلاقات الدولية، سعيد الصديقي، في حواري الأخير معه مطروحا، أي ماذا سيطلب “التاجر” ترامب منا كمقابل هذه المرة؟ وهل نستطيع أن ندفع؟