كاينابريس – د. علاء الدين بنهادي(*)
حكى قيدوم الصحافة الراحل مصطفى العلوي، مدير نشر صحيفة “الأسبوع الصحفي”، في كتابه “الحسن الثاني، الملك المظلوم”، بأنه كتب مقالا عام 1994 ينتقد فيه استقبال الملك الراحل الحسن الثاني وفدا مغربيا يتوسطه أحد كبار تجار المخدرات، فاتصل به والي الرباط حينئذ، عمر بنشمسي، ليبلغه بأن إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، ينتظره في مقر الوزارة عصرا، وعند وصوله وجد في استقباله مساعد البصري، حفيظ بنهاشم، فلما دخل على البصري في مكتبه، استقبله بعجرفة قائلا له بأن الملك أمره بإبلاغه بأنه قد تجرأ على دار المخزن، وبأنه عليه أن يتوقف عن الكتابة في شؤون دار المخزن، مضيفا بأن البصري زاد على كلام الملك قائلا له: يجب عليك أيضا أن تتوقف عن الكلام عن المخزن وليس فقط الكتابة، فقال له مصطفى العلوي: من هو هذا المخزن، فأجابه البصري: أنا المخزن”.
هذا ما يقع عندما ينفلت عقال “سلطة” بلا حدود ورجال بلا قيود، والقصد هنا سلطة المخزن ورجاله وأجهزته، حينما لا تكون هناك حدود يرسمها الدستور والقانوني بين “المخزن”والدولة ومؤسساتها، فيصبح صاحب السلطة المطلقة كما قال الملك الفرنسي لويس الرابع عشر هو الدولة: “أنا الدولة، والدولة أنا”، حالة نفسية واجتماعية معقدة تتحول فيها السلطة إلى السلطوية ويتحول السلطوي إلى “أنا” صاحب الحق الإلهي، يرفض أي محاولة تقييد دستوري أو قانوني أو مؤسسي لسلطته، ويرى في كل من ينتقد تصرفاته غير المنضبطة لأي نص بأنه مهدد للنظام العام وخارج عن طاعة “ولي الأمر” وعاص لأمر الله.
من أين يستمد “المخزن” قوته، مشروعيته أو شرعيته؟ وإلى أين يمكن أن تأخذ القوة والنفوذ أي سلطة أو جهاز في غياب اختصاصات وسلطات محددة له في الدستور وفي القانون؟ لماذا لا تحسم المؤسسة الملكية النقاش والخلاف الدائر حول مهام رجال “المخزن” خارج أسوار القصر بنص واضح وصريح في الوثيقة الدستورية وفي القوانين التنظيمية؟ من هو “المخزن”؟ هل هو “الجهات العليا” أم “البنية السرية” أم “الدولة العميقة” أم “حكومة الظل” أم “السلطة الموازية” أم “مسامير المائدة”، بتعبير عباس الجراري، مستشار الملكين، الراحل الحسن الثاني، ومحمد السادس، أم بعض هذا أم كل هذا؟ تبقى كل هذه المصطلحات والمسميات تشير لممارسات واحدة وتطرح نفس التساؤلات حول حدود وقانونية مهام هذا “الكيان” واختصاصاته وسلطاته وعلاقاتهبالأحزاب السياسية وبالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وبباقي المؤسسات والأجهزة الأمنية والنيابة العامة والقطاع الخاص وبالمجتمع المدني وبالدول.
ولفهم هذه الظاهرة الاجتماعية والسياسية المعقدة، والتي تتغذى على الصراع الدائم والتناقضات بين القوى السياسية والطبقات الاجتماعية، لابد من إجراء بعض الحفريات في تاريخ نشأتها وتطورها وممارساتها كحلقة وصل بين السلطان والرعية والنخب، على الأقل في البداية مع الدولة المرابطية والموحدية، حيث كان رجال”المخزن” هم أعيان القبيلة التي تنتمي إليها الأسرة الحاكمة، مع وجود استقطاب من قبائل أخرى مساندة وداعمة لها مقابل منافع ومصالح، لتتحول، فيما بعد، إلى قوة منظمة وخفية متوارية عن الأنظار لا تتعامل مباشرة مع الرعية وأصبحت ملحقة مباشرة بالديوان السلطاني ضمن مجاله الخاص غير المرئي وقوته الضاربة في وجه أي قوة أخرى اجتماعية أو دينية أو سياسية معارضة، كما سنرى في ثنايا هذه المقالة، واتخذت لها في بعض الحقب التاريخية عبر السلالات الحاكمة المتعاقبة في المغرب أذرعا لحماية الحكم ومصالحها واستباق المخاطر التي قد تهدده وتهدد مركزها، عسكرية وتجارية ومالية وأمنية وقضائية وإعلامية.
عُرف مصطلح “المخزن” في عهد السلالات المرينية والسعدية والعلوية، منذ القرن الثالث عشر، بـ“المستودع”، حيث تودع ثروات السلطان، كما كانت تودع فيه ذخائر ومدخرات الدولة الحربية والجبائية، وكان يحرسه رجال المخزن، “المخازنية”، بلباس موحد في بداية الأمر، ثم تحول “المخزن” إلى الجهات والفئات التي تشكل أركان هذا الكيان الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المركزي، ليتحول إلى النخبة التي تجمع، تحت أوامر وتوجيهات السلطان المباشرة، بين القوة النافذة والمال، وذلك عبر التحكم في مجموعة من الأجهزة والمؤسسات والهياكل الأمنية والاجتماعية والتجارية والتنفيذية والقضائية من دون أن تخضع لسلطة الحكومة أو المساءلة القضائية أو المراقبة التشريعية.
وقد عرفت السلالتان المرابطية والموحدية وجودا لهذا الكيان، كما سبق ذكره، ولكن كان يغلب عليه الطابع القبلي، إذ شكل عموده الفقري أعيان القبيلة، كجهاز سلطوي، التي تنتمي إليها السلالة الحاكمة، إضافة لأعيان قبائل أخرى كانت داعمة لحكمها في مواجهة القبائل المتمردة والمناهضة للأسرة الحاكمة، وكانت له وظيفة “قمع” هذه القلائل، كما وكلت إليه من قبل الإدارة السلطانية استخلاص الضرائب. إلا أنه في تلك المرحلتين كان هذا الجهاز ورجالاته يختفون غداة سقوط حكم السلالة ليحل محله جهاز آخر يدين بالولاء للسلالة الحاكمة الجديدة، الأمر الذي لم يحصل مع “المخزن” المنظم خلال حكم السلالات المرينية والسعدية والعلوية، ليس من حيث تركيبته وخلفيته القبلية، ولكن من ناحية تنظيمه وتسييره ومهامه المتعددة والمعقدة الحديثة، حيث أنشئت “دار المخزن” بفاس في عهد المرينيين بالقرب من قصر السلطان وحاشيته، خاصة في عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي، وأطلق مصطلح “المخازنية” على حراس “دار المخزن” ثم “بلاد المخزن” في العهد العلوي، ويقصد بذلك كل ما يمثل الدولة والنظام والأمن في مقابل “دار السيبة” أو “بلاد السيبة”، وهي المناطق الغير خاضعة لحكم السلطان وتعم فيها الفوضى والاضطرابات والتمرد على النظام السياسي والجبائي.
لقد حافظ مصطلح “المخزن” على هذا المعنى في عهد حكم السلالة السعدية، إلا أن فترة استعمار المغرب من قبل فرنسا عام1912، بل حتى قبل ذلك مع بداية الأطماع الأوروبية تجاه المغرب منذ هزيمته في معركتي “إيسلي” أمام الفرنسيين و”تطوان” أمام الإسباني، 1844، و1859 على التوالي، أطماع كرستها اتفاقية الجزيرة الخضراء عام 1908، ليتحول هذا الجهاز إلى قوة ضاربة ومتعددة المهام حتى بروز الدولة المغربية الحديثة “المستقلة” عام 1956، في مواجهة مع بعض قادة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير قبل الانشقاق الذي عرفه حزب الاستقلال عام 1959 على يد قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الغريم السياسي للسلطة الحاكمة في شخص الراحل الحسن الثاني وليا للعهد وملكا، غريم خرج جل قادته من رحم جيش التحرير والمقاومة واكتسب شرعية تاريخية ومثل جبهة ضد ورثة الاستعمار الفرنسي بعد الاستقلال، خاصة مع حكومة عبد الله إبراهيم، 1958-1960.
“المخزن”.. بين الاستعمار والاستقلال
لقد عرف “المخزن” خلال حكم السلالة العلوية، 1631 حتى اليوم، توسعا كبيرا عموديا وأفقيا، وتحول من تشكيلة قبائلية بدائية من الأعيان والقواد لتثبيت الغلبة السلطانية وجمع المال وقمع التمرد القبلي المناوئ لحكم السلطان، إلى سلطة غير مرئية وعابرة للمؤسسات، لا تتقيد بنص دستوري أو إطار قانوني أو تعاقد اجتماعي وسياسي، فزادت قوتها وترسخ في عقل النخب ووجدان الشعب تلك الصورة الأسطورية المهيبة لرجال ظل الملك، حملة العرش، ولكن مؤثرين في الحياة السياسية والاجتماعية، كما أنه لم يعد يقتصر “المخزن” على “مخازنية دار المخزن”، حراس المستودع، بل امتد لأجهزة ومؤسسات تشكل أداته التنفيذية الضاربة، أمنية واستخباراتية ومالية وسياسية وتجارية وقضائية وإعلامية.
هؤلاء هم “المخزن” كما قال إدريس البصري للصحفي الراحل مصطفى العلوي، والذي اعتبره الملك الراحل الحسن الثاني واحدا من رجالاتهم، البصري، “من المقدسات” خلال مفاوضات الكتلة الديمقراطية مع القصر مطلع تسعينيات القرن الماضي حول مشروع دستور 1992 وتشكيل حكومة جديدة يتناوب على قيادتها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، إلا أن تلك المفاوضات انتهت إلى الطريق المسدود، ثم أعيد طرحها خمس سنوات بعد ذلك في سياق وضعية احتقان اجتماعي وأزمة سياسية عرفتها المؤسسة الملكية، شخصها تقرير البنك الدولي الصادر عام 1996، بـ“السكتة القلبية”، لتنتهي بحكومة التوافق بقيادة اليساري الاتحادي عبد الرحمن اليوسفي عام 1998.
لم يعرف “المخزن” تطورا أو تغيرا منذ عهد السلطان إسماعيل، 1645-1727، حتى خضوع المغرب لاتفاقية الحماية، 1912-1955، حيث سيقدم الاستعمار، خاصة مع المارشال لويس هوبر ليوطي، على تحديث عمل “المخزن” بما يساهم في خدمة السلطان بشكل أفضل وأنجع، ويحافظ لفرنسا الاستعمارية على مصالحها الاستراتيجية عبر محاور موثوق، وهم رجال الحلقة الضيقة حول الملك، يدبرون شؤونه ومن خلاله جميع مؤسسات الدولة وسلطاتها واقتصادها وأمنها الوطني وجيشها وقطاعها الخاص. بقيت مهمة “المخزن” منذ السلطان إسماعيل، في القرن السابع عشر، حتى اليوم، كما يقول جون واتربوري في مؤلفه، “أمير المؤمنين، الملكية والنخبة السياسية المغربية”، متمركزة حول “جباية الضرائب، وتنظيم الجيش، وقمع القبائل”، أي قمع الأحزاب وجميع القوى الاجتماعية بالتعبير المعاصر إذا بدى أو قبل أن يبدو منها أي محاولة للتمرد والعصيان ومواجهة السلطة الحاكمة. ولخص محمد لمفضل بن محمد غرنيط، المشهور بسي فضول غرنيط، “وزير الشؤون البرانية” في عهد السلطان الحسن الأول، 1838-1894، وكبير وزراء الإيالة الشريفة في عهد السلطان عبد العزيز،1878-1943، سياسة “المخزن” مع خصوم السلطان القائمين والمحتملين في عبارة واحدة، “ريش الطير قبل ما يطير”، كما أشار إلى ذلك ميشو بلير في مؤلفه، “تنظيم المالية في المغرب”، الأرشيف المغربي، الجزء 11، الصفحة 250، عام 1907، أي اتخاذ إجراءات استباقية وإجهاض تحركات القوى السياسية المناهضة قبل تبلورها أو تحركها أو تحالفها ضد السلطان، كما يبدو اليوم بشأن مشروع تقارب جماعة العدل والإحسان وشخصيات يسارية منفردة لتشكيل جبهة وطنية من أجل التغيير كما يزعمون.
هناك استمرارية مثيرة بين الماضي والحاضر، بالنسبة لطبيعة “المخزن”، يقول واتربوري، كما أن هناك وصفا أعطاه هنري تيراس، مؤرخ ومستشرق فرنسي، للعوائد السياسية للمخزن لازال يحتفظ بكل قيمته رغم الأزمات والتغيرات والنوائب والدسائس التي مر بها وعرفها تحت حكم السلالات المغربية المتعاقبة، مشيرا إلى أنه “لم يشكل المحزن سوى ائتلاف مصالح، إذ لم يكن يمثل فكرا بناء، أو إرادة إيجابية موحدة، بل كان هدفه الأسمى ينحصر في البقاء لفائدة الجماعات والأشخاص الذين يكونونه”.
هذا ما وقع أيضا خلال سنوات “الجمر والرصاص” تحت حكم الملك الراحل الحسن الثاني، 1999-1961، ودور “المخزن” المباشر والنافذ، ولا يخفى ذلك على الباحث والسياسي منذ فجر الاستقلال، 1956، شاهد على أحداث عظيمة ومواجهات، مرة وفق قواعد اللعبة السياسية، تأسيس الحركة الشعبية، 1957، وحزب “الفديك”، 1963، وإسقاط حكومة عبد الله إبراهيم قبل ذلك، 1960، على يد “حكومة موازية” تعمل في أروقة القصر بقيادة ولي العهد الحسن وصديقه ومدير ديوانه، أحمد رضا أكديرة، أحد أعمدة “المخزن”، كما اعترف بذلك عام 1985، وحالة الاستثناء، 1965، وتارة أخرى عن طريق العنف، كما حصل في الريف، 1959، ومحاكمات 1963، وأحداث الدار البيضاء، 1965، واغتيال بن بركة، 1965، وأحداث مولاي بوعزة، 1973. كل هذه الأحداث وغيرها كان يديرها رجال “المخزن” عبر أجهزة ومؤسسات تأتمر بأمر هذا الجهاز باسم النظام.
“المخزن”.. والحق في الاختلاف
لم يخل العهد الجديد، 1999 حتى اليوم، من صراع غير مباشرة بين القوى السياسية ورجال “المخزن”، خاصة منذ اندلاع انتفاضات الربيع العربي وصيغته المغربية، حركة 20 فبراير 2011، إلا أن أسماء بعض رجالات “المخزن” كانت العنوان الأبرز في تلك الأحداث والاحتجاجات والمحاكمات في مختلف المدن المغربية، والتي طالت شباب الحركة وكتاب رأي ونشطاء حقوقيين واجتماعيين وسياسيين طالبوا ويطالبون باحترام المواثيق والمعاهدات الدولية ذات الصلة بمبادئ حقوق الإنسان وحرية التعبير، وبتفعيل مقتضيات دستور 2011 وتنزيل أحكامه تنزيلا ديمقراطيا عادلا لكونه جاء تلبية لمطالب حركة 20 فبراير وتحت ضغطها الشعبي في الشارع، وبأن يكون التدافع السياسي بين الفرقاء السياسيين وفق الدستور والقانون فقط، وذلك ابتداء من أحداث الحسيمة، 2017، وما تلاها من محاكمات وأحكام قضائية بمئات السنين، شملت، على سبيل المثال لا الحصر، رمز أحداث الحسيمة، ناصر الزفزافي، 20 سنة سجنا، والصحفيين والحقوقيين والمؤثرين، توفيق بوعشرين، 15 سجنا، وسليمان الريسوني، 5 سنوات، وعمر الراضي، 6 سنوات، وسعيدة العلمي، 3 سنوات، ونور الدين العواج، سنتين، أنهى محكوميته مؤخرا، ورضا بن عثمان، 3 سنوات، غادر السجن مؤخرا، والنقيب محمد زيان، 3 سنوات، وأخيرا القيادي في حزب العدالة والتنمية والأكاديمي عبد العلي حامي الدين، 3 سنوات ابتدائيا ولازالت هذه القضية السريالية معروضة على محكمة الاستئناف. لا يخفى على الناظر والمحلل الحصيف والنزيه بأن هذه المحاكمات ذات طابع وخلفيات سياسية، بل تشير بعض المصادر إلى دور بعض رجالات “المخزن” فيها.
لقد تحول “المخزن”، على الأقل بالنسبة للنخب السياسية والحزبية، إلى الجدار التي تتكسر عليه طموحات الشعب المغربي ونضال قواه السياسية بسبب اختلاف السياسات والاستراتيجيات والرؤى منذ حكومة عبد الله إبراهيم خاصة، “مخزن” غير منتخب يستمد قوته من القرب والمعية الملكية، ويتصرف في إمكانات مالية وسلطات غير محدودة، ويفشل جميع المناورات السياسية التي تأتي من المعارضة والاستحقاقات الانتخابية التي تفقده المبادرة أو تفاجئه بسبب تغيرات محلية أو إقليمية كما حصل مع حكومتي عبد الرحمن اليوسفي، قبيل وفاة الملك الحسن الثاني، وعبد الإله بنكيران، غداة اندلاع احتجاجات حركة 20 فبراير من جهة، وأحزاب، أو أغلبها، منتخبة ضعيفة رغم اكتسابها لمشروعية صناديق الاقتراع وشرعية إرادة الناخبين من جهة أخرى.
كما أصبح “المخزن” بالنسبة لهذه الأحزاب الوطنية التي فقدت، للأسف، روح ومشروع “الحركة الوطنية” و”الحركة الإسلامية” التي انطلقوا منها وخرجوا من رحمها، أصبح شماعة لتبرير فشلها، حتى لا توجه انتقاداتها للمؤسسة الملكية خوفا من “غضب” الملك أو المتابعة القضائية، وهذا هو دور “المخزن” أيضا، باعتباره الواجهة التي تقي الملكية الضربات السياسية ويتصرف باسمها ونيابة عنها في تدبير الصراع مع القوى المناهضة أو المنافسة لها. لقد أصبحت المواجهة اليوم مباشرة، بعد دخول أغلب الأحزاب حالة الموت السريري، بين رجال “المخزن” ومن يدور في فلكه من أحزاب ونقابات وإعلام وهيئات وسيطة، بالإضافة لمؤسسات أخرى، وبين معارضة جديدة غير مهيكلة داخل وخارج المغرب، تتمثل في بعض الشخصيات المستقلة والحزبية، حقوقية وسياسية وثقافية، ومؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي. لقد طلب الزعيم النازي أدولف هتلر يوما من وزير دعايته، بول جوزيف جوبلز، أن يعد له خطابا يوجهه للأمة الألمانية، عواما ونخبة، فلما جاءه بالخطاب، وجد فقراته ولغته كلها تخاطب العوام، فقال له هتلر: أين الفقرات الموجهة للنخبة؟ فكان رد جوبلز: حالة النخبة اليوم مثل وعي ومزاج العوام”. هذا هو ما عليه اليوم حال جل النخب الحزبية والسياسية والمثقفة ببلادنا، بل تجاوزها الشارع والمعبرين عنه عبر الفضاء الأزرق.
وتتصرف هذه “النخبة المخزنية” خارج الإطار الدستوري في غياب نصوص تشريعية وقانونية معلومة ومنشورة تنظم عملها وأنشطتها وتدخلاتها في عمل المؤسسات الدستورية وتحدد صلاحياتها ومهامها، وهي، بهذا المعنى، عابرة لمؤسسات الدولة ولا تمثل إرادة الناخبين وليس لها مشروعية صناديق الاقتراع، كما أن أعمالها وتصرفاتها لا تخضع للرقابة التشريعية، مما يجعلها في تناقض وصراع دائم مع ممثلي الأمة من القوى السياسية والهيئات المدنية في تدبير الشأن العام ووضع وتدبير السياسات العمومية، وكذلك في مواجهة “السلطة” الرابعة، الصحافة، ومنظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية فيما يتعلق بالانتهاكات والخروقات لمبادئ حقوق الإنسان.
لقد أصبح “المخزن” مستودعا لأسرار السلطة الحاكمة و”كيانا” أسطوريا نُسجت حوله في المخيال الاجتماعي، بل حتى في أوساط الباحثين والمتخصصين، قصصا وأحداثا، ونُسب إليه قدرات خارقة ما فوق السلطة نفسها، بل هو السلطة في معناها المطلق المنفلتة من أي تحديد أو تقييد في المجال والموضوع والإمكانيات، أصبح هو الحاكم بأمر السلطان حتى أنه قد لا يرجع إليه في كثير من الأمور والقرارات التفصيلية المعقدة ذات الطابع السياسي والأمني والاجتماعي والمتصلة بعمل الحكومة والبرلمان والقضاء.
قداسة “رجال مخزن” الحسن الثاني
حينما أدرك الملك الراحل الحسن الثاني، بعد توليه الحكم بقليل عام 1961، بل وشعر بذلك خلال ولاية عهده وعقب الاستقلال، بأن الملكية لم تعد تتمتع بمفردها بالشرعية التاريخية والعرفية، خاصة بعد نفي الأسرة الحاكمة ودور الحركة الوطنية في استعادة العرش، لأن شخصيات مؤثرة وكاريزمية خرجت من رحم الحركة الوطنية كانت لا تقل شرعية وحضورا في المجتمع المغربي وعلى الصعيد الدولي، وهو أمر أصبح يهدد مركزية الملكية وتأثيرها وتفردها بالسلطة المادية والمعنوية، فتفتقت عبقرية فقهاء الدستور الفرنسيين، أمثال موريس دو فيرجي، لوضع دستور ممنوح يضفي على الملكية شرعية دستورية يجعلها هي محور النظام والحياة السياسية في المغرب ويفصل لها صلاحيات وسلطات تجعلها فوق جميع مؤسسات الدولة والضامنة لاستمراريتها ودوامها واستقرارها، بل جعلها فوق الدستور بصفة الملك أميرا للمؤمنين، وكان ذلك باقتراح من عراب “المخزن” وحزب العدالة والتنمية عبد الكريم الخطيب، يستمد سلطاته من المرجعية الإسلامية عند الضرورة والاقتضاء ويتمتع بصلاحيات ما فوق دستورية.
إلا أن الحسن الثاني، ولكي لا يعرضه لأي مساءلة كباقي القائمين على إدارة مؤسسات الدولة ويحافظ له على سريته وعالمه، لم يجعل “المخزن” موضوعا من مواضيع دستور 1962 وما جاء بعده من الدساتير حتى آخر دستور لعام 2011، وبالتالي بقي “رجال المخزن” شأنا ومجالا ملكيا خاصا ليس لأي مؤسسة رقابية أو تنفيذية أو قضائية أو غيرها الحق في التعرض إليهم بأي شكل من الأشكال، بل قد يتعرض من يتناولهم بالنقد للمساءلة القضائية والمتابعة الأمنية نظرا للحصانة المطلقة التي يتمتعون بها ولغياب النصوص القانونية والتشريعية والدستورية التي تؤطر عملهم وتحدد صلاحياتهم وبطبيعة علاقاتهم بالمؤسسات الدستورية.
إن وجود “سلطة” أو “جهة” أو “أشخاص” خارج المؤسسات الدستورية المنتخبة أو المعينة ولا تخضع للتراتبية الحكومية والرقابة التشريعية والمتابعة القضائية ولا للتناول الإعلامي والحقوقي ولا للدراسات العلمية والبحثية، لا ينتهي سوى بخطر الانحراف عن مسار الديمقراطية وآلياتها وبإضعاف القانون، بل قد يعرض هذا الوضع الدولة نفسها ونظامها السياسي لازدواجية في تدبير الشأن العام، أو لا تدبير تتحمل مسؤوليته مؤسسات دستورية، الأحزاب خاصة، وفق أحكام الدستور والتشريعات والقوانين المنظمة لعملها، ويحاسبها الناخب عند كل استحقاق انتخابي، بل وقابلة للمساءلة أمام نواب الأمة وللمتابعة القضائية عند اللزوم، وثانيا تدبير “عن بعد” يقوم به “المخزن” ولا يخضع لأي رقابة من أي نوع كانت بدون سند دستوري أو قانوني.
إن السلطة لا يحدها سوى سلطة أخرى وفق مبدأي توازن السلط والفصل بينها انطلاقا من أحكام الدستور العليا والقوانين ذات الصلة، فأين يقع النفوذ اللامحدود للمخزن المغربي، ومن هي هذه السلطة التي لها صلاحيات مساءلته ومحاسبته إذا تدخل في عمل الحكومة والقضاء والبرلمان، وفي شؤون الملكية نفسها ومستقبلها، وفي المجالات الأمنية والاستخباراتية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية، إضافة لتدخله في أنشطة الهيئات المدنية والحقوقية الوسيطة، وما هي آليات هذه المساءلة والمحاسبة؟ وما هي نتائجها؟ وما هي النصوص القانونية المنظمة لمهامهم واختصاصاتهم؟
إن الغرض من هذه المقالة ليس هو النيل من مكانة رجال “المخزن” أوالتقليل من دورهم الاستشاري، فهم رجال الملك يستشيرهم في أمور الحكم بصفته رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء، أعلى سلطة تنفيذية، وهذا وضع يحتاج لدراسة عميقة، وتربطهم به علاقات خاصة، ورافقوه، في عمومهم، خلال مساره الدراسي والمهني كولي للعهد ثم ملكا، إن الغرض منها هو بيان أن مهمتهم الاستشارية يجب ألا تخرج عن هذا الإطار الخاص ولا تتعداه للقيام بمهام أخرى أنيطت بموجب منطوق الدستور وأحكام القوانين بمؤسسات دستورية أخرى يدبر شأنها وسياساتها العمومية الأحزاب السياسية الممثلة لإرادة الأمة في الحكومة وداخل قبة البرلمان المنتخب، مبدئيا، عبر اقتراع عام مباشر، حر ونزيه، ويراقب أعمالهما السلطة القضائية الدستورية والإدارية وغيرها.
إن “المخزن” كظاهرة اجتماعية وسياسية وكقوة تنفيذية إذا ما ترك بدون نص قانوني يحد من ممارساته ويحدد مجالات اختصاصه، فإنه لن يقف عند حد، وتلك طبيعة وماهية السلطة، لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. في مثل هذه الحالة، وبدعوى مصلحة النظام ومصلحة الدولة، قد يتضخم “المخزن”، وبدل أن يكون جهازا وأداة لتحقيق بعض السياسات والمصالح، يصبح طرفا فاعلا ليس لخدمة الدولة والنظام السياسي، وإنما لقيادة الدولة باسم النظام السياسي، ويُسخر من أجل هذا الهدف مؤسسات الدولة وإمكاناتها لتحقيق ذلك، وربما، كما حصل في التاريخ السياسي المغربي المعاصر، كما سنأتي على ذلك، تصبح مؤسسة الحكم أداة بيده للحفاظ على نفوذه ومركزه وسلطته وامتيازاته، بل يتدخل حتى في شؤون الحكم والصراعات الدائرة بشأنه، فيعزل ويختار من يجلس على العرش كما حصل عقب وفاة السلطان الحسن الأول والسلطان يوسف وقبلهما بعد وفاة السلطان إسماعيل.
دور “المخزن” في التاريخ السياسي الإسلامي
سجل تاريخ الأسر الحاكمة في العالم الإسلامي، بعد الخلافة الراشدة، وجودا وظيفيا للمخزن مع اختلاف في التنظيم والمسمى من سلالة لسلالة ومن سياق لسياق، بدءا بالدولة الأموية، ثم العباسية، ثم السلجوقية والخوارزمية، ثم العثمانية، وأيضا خلال حكم الدولة المملوكية البحرية والجركسية في مصر، وكذلك خلال تعاقب السلالات المغربية، المرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين، ثم العلويين، بأن ظاهرة تنامي قوة أو ضعف هذا الجهاز، “المخزن”، خلال تعاقب السلالات الحاكمة، ولو أنه عرف تطورا وطبيعة مختلفة بين عهد وعهد، مثلما وقع مع رجل “المخزن الأموي”، الحجاج بن يوسف الثقفي، ومع جعفر البرمكي في العهد العباسي، ومع “جيش الانكشارية” في العهد العثماني، ومع “عبيد جيش البخاري” تحت حكم السلطان إسماعيل، وذلك حسب قوة أو ضعف السلطان، أو بعد وفاته إذا كان قويا، كما حصل مع السلطان إسماعيل وصراع واقتتال أبنائه على العرش خلال حكمه وبعد وفاته ومع السلطان الحسن الأول، وقد لعب رجال “المخزن البخاري” وقادته العسكريين دورا خطيرا في عزل أو تنصيب السلطان، حيث تولى الحكم وعزل السلطان عبد الله بن إسماعيل ثلاث مرات، وما حصل أيضا مع “المخزن الانكشاري” وقادته العسكريين في الدولة العثمانية، حيث ينصبون أو يعزلون أو يقتلون السلطان وتنصيب ابنه أو أخيه مكانه أو التحالف مع زوجة السلطان لتمكين ولدها في الحكم وحماية مصالحهم.
وعرف المغرب أمثلة مشابهة كذلك عقب الوفاة المفاجئة للسلطان الحسن الأول 57) سنة(، عام 1894، ، فكان للمخزن في شخص حاجبه أحمد بن موسى الشرقي البخاري، سليل عبيد جيش البخاري، دورا حاسما في تولي عبد العزيز الحكم، أصغر أولاده، 14 سنة، بدل أخويه الأكبر منه سنا، عبد الحفيظ ويوسف، ليصبح الحاجب الملقب بـ “باحماد” خلال حكم السلطان عبد العزيز الصدر الأعظم ويقصي خصومه ويضع يده على مقاليد الحكم نظرا لحداثة سن السلطان وقلة خبرته وانشغاله باللهو.
حالة أخرى وقعت عقب الوفاة المبكرة للسلطان يوسف (45 سنة)، عام 1927، وبالرغم من تركه وصية شرعية لتولي نجله الأكبر إدريس السلطنة من بعده، إلا أن الصدر الأعظم محمد المقري، وهو أحد أعمدة “المخزن” ورموزه القوية ورجل الاستعمار داخل جهاز “المخزن”، والمقيم العام الفرنسي ثيودور ستيك، اختارا أصغر أبناء السلطان سنا، 17 سنا، “سيدي احمادي”، وهو لقب السلطان محمد الخامس، بالرغم من أن العديد من الفقهاء يعلمون بوصية السلطان يوسف بتوريث الحكم إلى نجله إدريس، ومن بينهم قاضي القضاة محمد بن رشيد العراقي ووزير العدل عبد الرحمن بن القرشي وآخرون ممن تشبثوا بتنفيذ الوصية، بالإضافة حاجب السلطان التهامي اعبابو الذي كان غائبا ذلك الحين، فتصدى لهم المقري بالتعاون مع المقيم العام الفرنسي، فتم تنصيب محمد بن يوسف سلطانا على المغرب يوم 18 نوفمبر 1927. كل ذلك تم بالتوافق بين مصالح رجل “المخزن” القوي الصدر الأعظم والمقيم العام الفرنسي.
كما وقعت أحداث مماثلة من قبل، غداة وفاة السلطان إسماعيل، تدخل فيها قادة “المخزن العسكري” ممثلا في جيش عبيد البخاري و”المخزن المدني” ممثلا في الصدر الأعظم أحمد مول أتاي، جد “باحماد”، الحاجب في عهد السلطان الحسن الأول، والصدر الأعظم في عهد السلطان عبد العزيز، حيث عمدوا إلى تثبيت حكم السلطان أحمد الذهبي بعد وفاة السلطان إسماعيل لأنه كان يزجي لهم العطاء وكانوا هم الحاكمون الحقيقيون فيما السلطان كان حكمه صوريا، إلا أنه مع السلطان عبد الملك بن إسماعيل تغير الوضع، حيث أراد إنهاء دور “مخزن” جيش البخاري القوي والمنتشر في دواليب الدولة، فعملوا على عزله وإعادة أحمد الذهبي إلى السلطنة، حتى جاء السلطان محمد بن عبد الله، حفيد السلطان إسماعيل، ليحد من دور وقوة “مخزن البخاري” بمساعدة جدته العالمة والسياسية خناثة بنت بكار الغافقي، وابتعد عن مراكزهم في مكناس وفاس ليضعفهم، وانتقل إلى مراكش.
من ناحية أخرى، سجل تاريخ “المخزن” أن بعض رجالاته لعبوا أدوارا سياسية مهمة في النصح والمشورة للسلطان، حيث يروي الأمير سليمان أن والده السلطان إسماعيل لما أيقن بالموت دعا وزيره وفقيهه محمد بن الحسن اليحمدي، وقال له :”إني في آخر يوم من أيام الدنيا، فأحببت أن تشير علي بمن أقلده هذا الأمر من ولدي، لأنك أعرف مني بأحوالهم”، فقال له:” يا مولاي لقد كلفتني أمرا عظيما، وأنا أقول الحق، أنه لا ولد لك تقلده أمر المسلمين، كان لك ثلاثة، المولى محرز، والمولى المأمون، والمولى محمد، فقبضهم الله إليه”، فقال له السلطان:” جزاك الله خيرا”، وودعه وانصرف، ولم يعهد السلطان لأحد بسبب أطماع أبنائه خلال حكمه بدعم من بعض رجالات “المخزن السياسي والعسكري” البخاري، وقتل بعضهم حينما تمردوا عليه وأعلنوا عليه الحرب في العديد من مناطق المغرب. وهذا ما فعله السلطان سليمان بن محمد الثالث، بنصيحة من أحد مستشاريه، بعد وفاة ولده الأمير إبراهيم في إحدى معارك السلطان ضد قبائل متمردة في مكناس وفاس، والذي كان يعده ليرث العرش بعده، حيث اختار ابن أخيه عبد الرحمن بن هشام ليكون سلطانا من بعده.
يفسر تطور “الخزن”، تنظيما وسلطة ومهاما ومالا، بعد الاستقلال بسببين رئيسين، الأول، هو أن مركز ثقله وقوته في القبائل، خاصة الموالية للسلطان، منذ الدولة المرابطية حتى سنوات ما قبل الاحتلال الفرنسي للمغرب مطلع القرن العشرين، لم تعد كذلك في عهد الاستقلال واشتداد الصراع بين تيارات تقدمية ومحافظة داخل الحركة الوطنية، خاصة الاتحاد الوطني للقوات الشعبي وبعض قادة حزب الاستقلال بعد الانشقاق عام 1959، والقصر بشأن إدارة شؤون دولة ما بعد الاستقلال، وكانت الحركة الوطنية، وذراعيها العسكري والسياسي، تتمتع بشرعية شعبية اكتسبتها بجهادها ضد الاستعمار وعملائه المحليين، وبناء دولة حديثة وإقامة نظام سياسي ديمقراطي متعدد الانتماءات السياسية، وهو ما كرسه ظهير الحريات العامة لعام 1958، فتحول هذا الثقل إلى المدن حيث ميزان القوة ليس لصالح الملكية وجهازها الضارب، “المخزن”، مع بداية الاستحقاقات الانتخابية الجماعية، 1961، والتشريعية، 1963، وبينهما دستور 1962، الذي حاول القصر من خلاله إعادة ضبط التوازنات مع خصمه السياسي المنافس، اليسار، متمثلا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
“المخزن”.. وضرورة تطور النظام السياسي
ستختل هذه التوازنات وتضطرب لعقود عقب إسقاط ولي العهد وقتئذ، الأمير الحسن، حكومة عبد الله إبراهيم عام 1960، وستزداد في الاختلال بعد اعتلائه العرش عقب الوفاة المفاجئة لوالده السلطان/الملك محمد الخامس في السادس والعشرين من عام 1961، عن عمر يناهز51 عاما، وغداة الانتخابات التشريعية عام 1963 ودور “الفديك”، جبهة الدفاع عن المؤسسة الدستورية بقيادة صديق ومستشار الملك أحمد رضا أكديرة، أحد رجالات “المخزن” النافذين، في إدارة هذه المناورة السياسية التي عمقت الأزمة بين الملكية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، اختلالات سيضبطها الملك الحسن الثاني بالفراغ السياسي وتعطيل عمل المؤسسات الدستورية الذي تعمده بعد إعلان حالة الاستثناء خلال الفترة ما بين 1965 و1970 ليدخل البلاد في مرحلة ملكية مطلقة كاملة الأركان تُوجت بحدث سيعمق الهوة والصراع بين اليسار والملكية، وهو اغتيال القيادي الاتحادي المهدي بن بركة بباريس خلال سنوات حالة الاستثناء، في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر 1965، ووجهت التهمة للضابطين محمد أوفقير وأحمد الدليمي بمساعدة رجال من المخابرات المغربية والفرنسية ودعم لوجستي ومعلوماتي من المخابرات الأمريكية والصهيونية، فتجلت هذه الملكية المطلقة في دستور 1970.
لقد انتهت هذه السياسية الأحادية والاستفراد بالحكم والتعطيل المؤسسي بمحاولتين انقلابيتين كادتا أن تضعا نهاية للملكية في المغرب إلى الأبد عامي 1971 و1972، إلا أن فشلهما حول الملك الراحل الحسن الثاني إلى رجل “لا يثق في المخدة التي يضع عليها رأسه”، كما قال في إحدى الحوارات سنوات بعد ذلك، فأطلق يد “المخزن” ليفرض قواعد لعبة سياسية جديدة على جميع القوى بدون مقاومة حقيقية، وذلك بعد التخلص من الخطر العسكري، يسارية واستقلالية وإسلامية.
في الوقت الذي كانت الملكية ورجالاتها في جهاز “المخزن” تعتقد بأن غريميها على مشارف نهاية قوتهما وتأثيرهما في ميزان الصراع، الجيش والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، شهد المغرب ميلاد حركة إسلامية عام 1969، انتشرت بسرعة داخل كبريات المدن والقرى، خاصة في الدار البيضاء، معقلها وموطن ميلادها، على يد الشيخ عبد الكريم مطيع وثله من إخوته، أحد رجالات حزب الاستقلال والمقاومة، خاصة الجناح المسلح بقيادة محمد بن بريك بن إبراهيم، المعروف بالاسم الحركي حمان الفطواكي، ضد الاستعمار الفرنسي وأعوانه المحليين خلال سنوات 1953-1955،ثم فيما بعد أحد رجالات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عام 1959. لم تكن فقط حركة دعوية إسلامية وليدة سياق سياسي وتاريخي معين أو ردة فعل حيال اليسار، خاصة جناحه العلماني الاستئصالي والإلحادي، كما يظن البعض، ومعارضة لسياسات السلطة الحاكمة حول قضايا اجتماعية ودينية واقتصادية وسياسية، وإنما نشأت في سياق أكبر من ذلك وأعمق، تمتد خيوطه ووشائجه إلى حالة العالم العربي والإسلامي وقد خرج للتو من قبضة الاستعمار الأوروبي وظهور مؤشرات استهداف الإسلام ومنظومته القيمية داخل المجتمع المغربي، وأيضا من هزيمة 1967 أمام الكيان الصهيوني وفشل الإيديولوجيات القومية الناصرية والبعثية المستبدة في النهوض بالأمة من سباتها وتخلفها وتبعيتها للغرب.
لقد كانت الشبيبة امتدادا فكريا وروحيا للتيار المحافظ داخل الحركة الوطنية ولحركة الإصلاح الديني التي انطلقت في المغرب والمشرق منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وأكثر من ذلك وأهم مما سبق ذكره، كان ميلاد هذه التجربة الإسلامية نابعا من وعي ديني بالواجب الشرعي أمام كل المخاطر التي تواجهها الأمة الإسلامية وتواجهها بلادنا في تلك المرحلة، كما أن المشيئة الإلهية كان لها تدخل في هداية رجال سينهضون بالدعوة وبمشروع الإحياء الديني داخل المجتمع المغربي استكمالا لما قدمه العلماء والدعاة من قبل، ومواجهة الظلم والفقر والحيف من جهة، ومواجهة تيارات اليسار العلماني الاستئصالي والإلحادي، واستكمال استقلال البلاد من التبعية للغرب على أكثر من صعيد من جهة أخرى. وخلافا لكل أشكال الدعوة الإسلامية التي كانت في المغرب من قبل، سلفية وتبليغ وطرقية مبتدعة، فإن جمعية الشبيبة الإسلامية كانت عملا مختلفا عما سبقها أو عاصرها، كانت تنظيما محكما وفهما شرعيا أصيلا واجتهادا فقهيا واسعا ومنهج عمل متطور تطلبته الظرفية التاريخية والسياسية، جمع بين السرية والعلنية، بين الأهداف التكتيكية والأهداف الاستراتيجية، وكانت حركة تربوية وسياسية وفكرية وسلفية.
يغفل العديد ممن كتبوا عن تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب أن الجيل الذي أطلق أول شرارة لبناء حركي دعوي وسياسي وتربوي منظم بإحكام ومشروع محدد وأفق واسع، شارك وعاصر عمل الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير في وجه الاستعمار الفرنسي وأذنابه المحليين، وكان معه ممن يمثلون التيار المحافظ داخل الحركة الوطنية وداخل حزب الاستقلال من بعد، وفضلوا الخروج مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من رحم حزب الاستقلال عام 1959 لكونه يمثل صوت وحلم الشعب في دولة حرة مستقلة ونظام سياسي شوري ديمقراطي وفي حياة كريمة، كما كان الاتفاق بين السلطان محمد الخامس وزعماء الحركة الوطنية، فضلوا الخروج مع الاتحاد على البقاء داخل حزب الاستقلال الذي أصبح مع حكومة أحمد بلافريج أقرب للمخزن والقصر وتراجع عن مطالب الحركة الوطنية ووعود الملكية وساهم في إقامة ملكية مطلقة كان عنوانها المبكر الأبرز إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم عام 1960 ثم اغتيال الزعيم الاتحادي المهدي بن بركة وإعلان حالة الاستثناء عام 1965 من قبل الملك الراحل الحسن الثاني.
كان هذا الجيل شاهدا على انحراف مغرب ما بعد الاستقلال وإقصائه لرجالات الوطنية الحقة، ووجد نفسه أمام جهاز عصري وقوي، “المخزن”، تدرب معظم رجاله، مدنيين وعسكريين، على يد الفرنسيين لمواجهة التيار الوطني خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، وعمل على إجهاض أي محاولة للنهوض بالبلاد اقتصاديا وسياسيا وعسكريا واجتماعيا، وكان هذا مكمن الاختلاف بين ولي العهد الحسن ورئيس الحكومة عبد الله إبراهيم، بل وبعض قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال وشخصيات وطنية، من بينهم المهدي بن بركة وعلال الفاسي ومولاي العربي العلوي، كما حصل بشأن الخطط الخماسية وقرارات إنهاء الوجود العسكري الأجنبي فوق أرض المغرب ومغربة الإدارة العمومية والتوجه نحو التصنيع وبناء علاقات دبلوماسية قوية مع دول مثل الصين والاتحاد السوفييتي والهند بدل الاستمرار في التبعية للمستعمر الفرنسي والهيمنة الأمريكية.
أمام هذا الواقع السياسي المتمثل في استمرار النظام في الاصطفاف مع مصالح المستعمر الفرنسي على جميع الأصعدة والتقاطع الاستراتيجي مع السياسات الأمريكية في المنطقة وفي الشرق الأوسط، خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والعلاقة مع الكيان الصهيوني، وأمام هيمنة التوجه العلماني الاستئصالي والإلحادي داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ودفاعا عن الانتماء الديني للشعب المغربي لقرون وحماية لمكانة الإسلام ودعوته داخل المجتمع وحول قضايا الحكم، وانطلاقا من إحساسه ووعيه بالمسؤولية الشرعية وبالواجب الوطني لتحقيق ما قاوموا من أجله الاستعمار الفرنسي، اختار هذا الجيل الخروج من عباءة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وإعلان تأسيس أول حركة إسلامية بالمغرب تختلف عن أي وجود إسلامي آخر منذ رواد الإصلاح الديني مطلع القرن العشرين وخلال مرحلة المقاومة، وذلك عام 1969، عشر سنوات بعد انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال.
لقد تميزت تجربة جمعية الشبيبة الإسلامية عن كل التجارب المنتسبة للإسلام في المغرب بكونها حركة منظمة يشرف على إدارتها قيادة محكمة من مختلف المستويات التنظيمية والقطاعية وعلى رأسها قيادة مركزية قوية، وتميزت كذلك بمنهج عملها وتوسعها في ظرف قياسي في جل المدن والقرى وفي القطاعات الجامعية والنقابية والتعليمية، مما أثار حفيظة خصومها داخل اليسار وفي الدوائر العليا ابتداء من محيط ورجالات “المخزن”، فكان أكبر خصومها واحد من رجالات “المخزن” ممن لعبوا دورا كبيرا في أزمة الثقة والتوجس بين قيادة الشبيبة، خاصة زعيمها الشيخ مطيع، والملك الراحل الحسن الثانية، هو الراحل عبد الكريم الخطيب، عراب مشروع إدماج تركة الشبيبة الإسلامية بعد جريمة اغتيال المناضل الاتحادي عمر بن جلون يوم الثامن عشر من ديسمبر 1975 في النسق السياسي وفق شروط المخزن، والذي يعمل اليوم تحت اسم حزب العدالة والتنمية.
أما السبب الرئيسي الثاني لضرورة تحديث وتطوير “المخزن”، فيتجلى في أن الملكية لم تعد، خلال فترة الاحتلال وغداة الاستقلال، اللاعب السياسي الوحيد في البلاد، وصاحب الشرعية الدينية والتاريخية الوحيدة، ولكن أصبحت هناك شرعية أخرى تنافسها وشخصيات وقوى وطنية ودينية لعبت دورا محوريا في حصول المغرب على الاستقلال والتفاوض مع المحتل وإسماع صوتها في المحافل الدولية، بل كان لها الفضل التاريخي والسياسي في استعادة الأسرة العلوية العرش عام 1955 بعد نفي دام سنتين، ولم تبايع ملك فرنسا، بن عرفة، الذي حاولت فرنسا جعله ملكا حقيقيا وأحاطته بقواد وباشوات وأعيان القبائل وعلماء وتجار لخداع الشعب والحركة الوطنية. لقد وجدت الملكية نفسها، غداة الاستقلال، أمام قادة من السياسيين والعلماء الوطنيين وتنظيمات سياسية لن تستطيع مواجهتهم إلا بتحديث وتقوية جهاز “المخزن”، وهذا ما جعل الاستعمار الفرنسي ينتبه لهؤلاء القادة مبكرا منذ اندلاع المقاومة السياسية والمسلحة ضده عام 1944، وينبه القصر بخطرهم على مستقبل الملكية وعلى مصالحه الحيوية، فكان لابد أن يقوم بتحديث “المخزن” لجعله قادرا تنظيما وتكوينا وتخطيطا وصرامة للعمل في مرحلة ما بعد الاستقلال لحماية الملكية ومواجهة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فكانت أول خطوة في مخطط فرنسا والقصر، تعيين ضابط فرنسا وباشا القصر، مبارك البكاي لهبيل رئيسا لأول حكومة استقلال “إيكس ليبان” في السابع من ديسمبر 1955 وتهميش قادة المقاومة وجيش التحرير، وتكليف رجل فرنسا والضابط السابق في جيشها، ورجل “المخزن” الأول حينئذ، الجنرال محمد أوفقير، بتأسيس الخلية الأولى للاستخبارات، CAP1، والذي يتحمل أسوأ وأخطر مرحلة في التاريخ السياسي المغربي المعاصر، سنوات الرصاص، وتميز بالاغتيالات والمقابر المراعية والسجون السرية ومراكز تعذيب المعارضين حتى الموت.
المفاجأة الأخرى وهي أن بعض رجال “المخزن” بايعوا ملك فرنسا، محمد بن عرفة عام 1953، وهو من السلالة العلوية ومن أبناء عمومة السلطان، غداة نفي السلطان محمد الخامس، وخانوا ملكهم بإيعاز من حليف بن عرفة ورجل فرنسا القوي وقتئذ، باشا مراكش التهامي الكلاوي، كما أن قوادا وباشوات وعمالا، وكان من بين الموقعين على عريضة عزل السلطان محمد الخامس وتنصيب بن عرفة مكانه “الجنرال” حفيظ العلوي، رجل “المخزن” المقرب من القصر الملكي، وضابط فرنسا وصاحب المقولة المشهورة عن رجال المقاومة وجيش التحرير “كنت أقتلهم مثل الذباب”، كما انضم العديد من القواد والباشوات من رجالات “المخزن” إلى حركة التمرد، 1957، سنة بعد الاستقلال، التي قادها عامل تافيلالت، عدي وبيهي ضد حكومة أحمد بلافريج الاستقلالية، بالتعاون مع وزير داخليتها لحسن اليوسي، تمرد قاده رجال “المخزن”.
كانت فرنسا تدير مع القصر ورجالاته داخل “المخزن” الصراع مع الوطنيين والاتحاديين منذ مفاوضات “إيكس ليبان” عام 1955 التي قادها ضابط في الجيش الفرنسي، الباشا مبارك البكاي لهبيل، سيصبح أول وثاني رئيس حكومة بعد الاستقلال عامي 1955 و1956، وضابط آخر في الجيش الفرنسي، المحجوبي أحرضان، الذي سيتزعم تأسيس الحركة الشعبية عام 1957 لمواجهة الجناح التقدمي الوطني داخل حزب الاستقلال، والاستعداد للمواجهة الكبرى مع الخصم السياسي والإيديولوجي الشرس للملكية، بعد الانشقاق عن حزب الاستقلال عام 1959، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، خلال ولاية حكومة عبد الله إبراهيم، 1958-1960، وأيضا أثناء الانتخابات التشريعية لعام 1963، عبر حزب أسسه أحمد رضا أكديرة، مستشار وصديق الملك الراحل الحسن الثاني، “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” (الفديك)، “القوة الثالثة” بتعبير محمد عابد الجابري، وذلك بالتعاون مع الحركة الشعبية و”اللامنتمين” وحزب الشورى.
كانت هذه المبادرة السياسية أولى التعبيرات الحديثة للمخزن المعاصر في مواجهة خصوم الملكية، ستتكرر عقود بعد ذلك في سياق سياسي وتاريخي مشابه، مع مبادرة “الحركة لكل الديمقراطيين”، عام 2007، قادها فؤاد علي الهمة، صديق ومستشار الملك محمد السادس، وستتحول فيما بعد بقليل لحزب الأصالة والمعاصرة، عام 2008، كتعبير سياسي عن إحدى مهام “المخزن الحديث”، وهي الاستعداد لمواجهة التيار الإسلامي هذه المرة بعد أن أخضع اليسار وأخرجه من المعارضة، إلا أن شرارة الربيع العربي واحتجاجات حركة 20 فبراير 2011 في جل المدن المغربية، وتصدر القوى الإسلامية في الساحة السياسية العربية، ستضع حزب العدالة والتنمية، بالرغم من معارضته لشعارات الحراك الاجتماعي، ستضعه على رأس حكومتين، 2012-2021، وقبل به “المخزن” والملكية على مضض، بعد تحذير عواصم غربية للسلطة من عدم قبول هذه الصدارة لتجنب الاصطدام مع الشارع كما حصل في العديد من الدول العربية.
سيغير “المخزن” التكتيك ويدفع بقواه الحزبية كما يفعل دائما، أحزاب إدارية وأخرى انتهازية، الأصالة والمعاصرة والتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، لمحاصرة العدالة والتنمية من الجهات الأربعة، من داخل الحكومة وفي المعارضة وفي وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وعبر المؤسسات الموازية، فكانت الضربة السياسية الأولى مع خروج حزب الاستقلال من حكومة بنكيران عام 2013، بتوجيه من رجال “المخزن” كما قيل، بهدف إسقاطها، تزامنا مع الانقلاب العسكري ي مصر ضد الرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي، أو إدخال التجمع الوطني للأحرار لضربها من الداخل استعداد للاستحقاقات الانتخابية التالية، ثم جاء الضربة السياسية الثانية من داخل الحزب على يد “إخوة” بنكيران مع ما سمي بـ“حكومة البلوكاج” عام 2016، فأسقط الرجل سياسيا وحزبيا بعد إبعاده من قيادة الحزب، ثم جاءت الضربة القاضية بمعاول من داخل الحزب وخارجه، ليهوي من المرتبة الأولى إلى المرتبة الثامنة والأخيرة في سلم الأحزاب المهمة، وبعدد نواب لم يمكنه من تشكيل فريق نيابي ، 13 نائبا. لم يكن ممكنا تحقيق هذا “الانتصار” لولا عمل “المخزن” الحديث تنظيميا والقوي سلطة والغني مالا والمنتشر أفقيا وعموديا.
لقد تعرضت الملكية خلال حكم الملك الراحل الحسن الثاني، 1961-1999، للخيانة من قبل أقرب وأوثق رجال “المخزن”، الجنرال محمد أوفقير، والجنرال أحمد الدليمي، ووزير الداخلية إدريس البصري، وصديق ومستشار الملك، أحمد رضا أكديرة، حيث قاد الأول محاولة الانقلاب العسكري عام 1972 لإسقاط الملكية، والثاني كان يخطط لمحاولة انقلاب عسكري ضد الملكية مطلع ثمانينيات القرن الماضي، والثالث كان يخطط لإعادة تجربة الصدر الأعظم المدعو “باحماد” في عهد السلطان عبد العزيز، 14 سنة، حيث كان الحاكم الفعلي وأغرق السلطان/الفتى في الملذات، إلا أن البصري لم يكن يعلم، والعهدة على الراوي، بأن الملك الراحل الحسن الثاني قد أوصى ولي عهده بأن يكون إدريس البصري أول من يعفى من منصبه ليلة “العشاء الأخير”، وكان ذلك ليلة البيعة، حيث اقتاده وحجزه الجنرال حسني بن سليمان، رئيس جهاز الدرك الملكي، والجنرال عبد الحق القادري، مدير المديرية العام للمستندات والوثائق، حسب مصدر موثوق، في إحدى غرف القصر تحت حراسة مشددة، حتى تمت مراسيم البيعة وأعلن إعفاؤه، لتبدأ رحلة الصعود نحو الهاوية. أما الرابع، فقد جعل الملك الحسن الثاني يقول في أحد حواراته الصحفية مع مجلة “لو نوفيلأوبسرفاتور”، بسبب ما اكتشفه من غدر بعد وفاة اكديرة، بأنه “لم يعد يثق في المخدة التي يضعها تحت رأسه”.
كتب واتربوري في مؤلفه المشار إليه أعلاه، بهذا الشأن: “كان السلاطين في كثير من الأحيان يواجهون تهديدات من داخل العائلة الحاكمة نفسها، حيث يتحالف بعض أعضائها مع القبائل المتمردة.. وكانت وفاة السلطان تعد الإشارة الأكثر ملاءمة لاندلاع الثورة، لأن التجربة الطويلة علمت الكل أن عددا من المطالبين بالعرش سيتنافسون بالسلاح حول الخلافة وسيجندون القبائل وأن الفوضى سوف تسود أقواهم وأمهرهم”. هذا ما كان يريد البصري فعله قبيل وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، حيث كان يمني النفس، حسب ما أصر به لمقربين منه بعد إعفائه، جعل ولاية العهد للأمير رشيد بدل الأمير محمد، الملك الحالي، كما فعل من قبل باحماد، حاجب السلطان الحسن الأول، حين نصب عبد العزيز، أصغر أبناء السلطان الحسن الأول، سلطانا على المغرب، ليتولى هو منصب الصدر الأعظم ويتحكم في دواليب الدولة، وذلك لأن البصري كان يستشعر زوال نفوذه وسطوته تحت حكم الملك الجديد، وسيتم “تتريكه” كما فعل من قبل بالصدر الأعظم باحماد في عهد السلطان عبد العزيز، وبـ “العلاف الكبير” والحاجب والسفير (وزير الدفاع) المهدي المنبهي في عهد السلطان عبد الحفيظ.
وتؤكد الشواهد والأحداث التاريخية التي عرفتها مختلف السلالات الحاكمة بالمغرب، كما سبق ذكره، بأن “المخزن”، بمعنى “رجال الحكم النافذين” في الحلقة الضيقة حول السلطان/الملك، قد تحولت إلى تهديد للسلالة الحاكمة نفسها كلما استشعروا خطرا يحوم حولهم أو ترتيبا سياسيا مستقبلا قد لا يكون لمصلحتهم، ولأنهم يتمتعون بنفوذ كبير داخل دوائر الحكم ومفاصله ولهم أذرع تدين لهم بالولاء المطلق في مختلف المناطق والإدارات والطبقات الاجتماعية، وداخل المؤسسات المؤثرة في السلطة، الجيش والأعيان والمخابرات والأمن والقضاء، فإنهم سيتدخلون حتى في مسار الحكم وفي اختيار من يتقلد زمامه ويجلس على العرش كما حصل مع السلاطين إسماعيل والحسن الأول ويوسف.
لقد شكلت تفجيرات الدار البيضاء الدامية في 16 ماي 2003 نقطة تحول في مسار العهد الجديد ونهاية للشعارات السياسية والاجتماعية الواعدة بمغرب جديد وللمبادرات الحقوقية التي انطلقت معه غداة وصول الملك محمد السادس إلى الحكم يوم 30 يوليوز 1999 خلفا لوالده، تفجيرات كان الهدف منها إعادة ضبط الزمن السياسي على إيقاع الزمن الأمني، والعودة لاستراتيجية المواجهة مع المعارضة، من كل طيف، مهيكلة أو غير مهيكلة، بدلا من استراتيجية الحوار والشراكة في تدبير الشأن العام. لقد مثلت شعارات العهد الجديد، في بدايته، محاولة لاستكمال شعارات عهد السلطان محمد الخامس وتنفيذ ما تم الاتفاق بشأنه بين الملكية والحركة الوطنية، إلا أن “مخزن” العهد الجديد، والذي رأى في هذا المسار السياسي وفي هذه الشعارات خطرا على مصالحه، فما كان عليه إلا أن يأخذ بزمام المبادرة ويتدخل قبل فوات الأوان، فوقع ما وقع على يد واحد من أدوات “المخزن” النافذين آنئذ، الجنرال حميدو العنيكري، مدير إدارة مراقبة التراب الوطني، جهاز المخابرات الداخلية “الديستي”.
استغل الجنرال لعنيكري، الذي أشرف على التحقيق في أحداث الدار البيضاء، بالتعاون والتنسيق المباشر، حسب بعض المصادر، مع الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إي”، وذلك في إطار مواجهة الحركات الإسلامية، السياسية والجهادية، غداة انفجارات نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001، موقعه لتصفية حسابات مع الحركة الإسلامية وذلك عشية سن قانون مكافحة الإرهاب من قبل البرلمان المغربي عام 2003، فكانت تلك أول مواجهة، وإن كانت بشكل استباقي، مع حزب العدالة والتنمية وذراعها الدعوي حركة الإصلاح والتجديد غداة الحوار الذي أجراه رئيس الحركة آنئذ أحمد الريسوني مع مجلة “أوجوغدوي لو ماروك” يوم 12 ماي 2003، أربعة أيام قبل انفجارات الدار البيضاء، ليتم تهديد قيادة الحزب والحركة في اجتماع عاصف اتسم بالتهديد بحل الحزب والحركة، حضره كبار رجالات “المخزن”، وانتهى بـ“عشاء فاخر” انقلب فيه التهديد والغضب إلى تبادل الابتسامات والمرح. هذه هي استراتيجية “المخزن” الحديث، “العصا والجزرة”، ومن يومها، دخل “الإخوة”، في الحزب والحركة، الصف إلى حين وقت الحساب في الثامن من سبتمبر 2021، بعد أن لعبوا دورا كبيرا في تجنيب النظام حرائق الربيع العربي.
إن أخطر شيء على الحكم، كما قال الملك الراحل الحسن الثاني عام 1962، هو أن “توضع الملكية ضمن معادلة”، وكان يقصد أستاذه في الرياضيات، القيادي الاتحادي المهدي بن بركة، ويشمل ذلك أي جهة وراء هذه “المعادلة”، رجال “المخزن” أو الجيش أو القوى السياسية أو غيرها. لقد عمل السلاطين والملوك منذ قرون، في المغرب أو في دول أخرى تحت حكم ملكية أو قبيلة أو حزب أو جيش، على تشتيت وتفرقة الخصوم والطامعين والمتنفذين، داخل أو خارج منظومة الحكم، واختراقهم وشرائهم وترهيبهم وقمعهم وكسر إرادتهم، وجعل بنية الحكم ورجالاته، “المخزن”، ما أمكن، متماسكة ومنظمة وخارج تقلبات وتكتيكات اللعبة السياسية، وإن كانت هذه “البنية” هي من تدير هذه اللعبة في الغرف المغلقة ومن وراء حجاب. لكن، تبقى السلطة ظاهرة اجتماعية وسياسية ويبقى المُلك عقيما، كما قالت العرب، وكلما ظهر عليه ضعف أو تردد أو مر بظروف عصيبة، وفاة أو صراع، إلا وتحركت الأطماع، وأول من يتحرك هم الأقرب من بيت الحكم، خوفا من تبدل أحوالهم وزوال امتيازاتهم ونفوذهم أو تعرضهم للمساءلة والمحاكمة والتتريك، وربما، كما حصل عبر تاريخ الأنظمة السياسية، وهو ما وقع مع ثورات الربيع العربي قبل عقد ونيف، يتعرضون لنهاية مأسوية خارج سلطة القانون.
يتأكد عبر كل هذه الأحداث الممتدة على مدى عقود، وبالتحديد منذ إعلان استقلال “إيكس ليبان” عام 1956، بأن تولى ضابط فرنسا الباشا مبارك البكاي الهبيل، ورجل من رجالات المخزن، وليس واحدا من قادة الحركة الوطنية، وهم كثر، رئاسة الحكومة الأولى والثانية، ليقبل هؤلاء القادة الأمر الواقع “على مضض”، كما عبر عن ذلك القيادي الاتحادي عبد الرحيم بوعبيد غداة انتخابات 1977 التشريعية، وهي عبارة ستتكرر أمام كل تواطئ أو توافق بين النخب الحزبية والقصر، ثم تولى القيادي في حزب الاستقلال، أحمد بلافريج، وهو واحد من رجالات المخزن داخل الحزب، وليس زعيم الحزب علال الفاسي، ممثلا للتيار المحافظ، أو المهدي بن بركة، ممثلا للتيار التقدمي، وتأسيس الحركة الشعبية عام 1957 لمواجهة حزب الاستقلال، وإسقاط حكومة عبد الله إبراهيم ثم الاستفتاء على الدستور الممنوح عام 1962، وتشكيل تحالف بين المخزن والأحزاب والشخصيات الموالية للملكية أطلق عليه اسم “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية” (الفديك) عام 1963 لمواجهة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاستقلال في انتخابات 1963 التشريعية، تحالف سرعان ما سيسقط بعد ملتمس الرقابة الذي تقدمت به المعارضة عام 1965 لإسقاط حكومة باحنيني، ثم تلا ذلك قرار منع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب من تأطير التلاميذ في الثانويات والإعداديات في الحادي والعشرين من يونيو 1963، لتأتي دورية وزارة التعليم في شهر فبراير 1965 تمنع من أعمارهم من الشباب فوق 17 سنة من الالتحاق بالثانوية وإحالتهم على التعليم التقني، أعقب ذلك احتجاجات 22 مارس من نفس السنة في بعض المدن، خاصة الدار البيضاء، واجهها الملك الحسن الثاني بالآلة العسكرية والقمع يوم 23 مارس سقط على إثرها مئات من الضحايا بين قتلى وجرحى ومختطفين، أحداث متتالية ومتسلسلة بعناية انتهت بإعلان حالة الاستثناء في السابع من يونيو 1965 وحل البرلمان وتعطيل عمل المؤسسات واستفراد الملك الحسن الثاني بحكم البلاد في غياب تام للقوى السياسية والمؤسسات الدستورية، وإعادة ترتيب التوازنات لفائدة الحكم بعد حالة الاستثناء.
لقد وقعت خلال هذا الفراغ السياسي والتشريعي والدستوري جريمة من أبشع الجرائم السياسية في التاريخ الحديث، اغتيال القيادي في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المهدي بن بركة بباريس يوم 29 من أكتوبر 1965، خمسة أشهر بعد إعلان حالة الاستثناء، ولأن الفصل (35) من دستور 1962 لم يحدد مدة حالة الاستثناء، فقد جعلها الملك الراحل خمس سنوات ليعيد ترتيب دواليب الحكم وتأثيثه وفق هندسة وخريطة سياسية جديدة سيعلنها في دستور 1970 الممنوح، فكان أول مولود سياسي بعد هذا الترتيب الذي نفذه “المخزن” والأحداث الجسيمة التي طبعت الحياة السياسية بالمغرب، هو إعلان نية الانفصال عن الاتحاد الوطنية للقوات الشعبية بزعامة عبد الرحيم بوعبيد، فيما سمي بـ”بيان يوليوز” 1972، أياما قليلة قبل محاولة الانقلاب العسكري الثاني في 16 غشت 1972، انشقاق قادته ما سمي بـ “مجموعة الرباط” في دجنبر 1975، بعيد اغتيال القيادي والنقابي الاتحادي عمر بن جلون في 18 ديسمبر 1975، لتبدأ مرحلة سياسية ومعادلة جديدة ستكون وتبقى فيها الغلبة والمبادرة للملك الراحل الحسن الثاني، في غياب تام لإرادة الأحزاب التي خرجت من رحم الحركة الوطنية والحركة الإسلامية.
سأل جون لاكوتير، رئيس تحرير مجلة “نوفيل أوبسرفتور” الملك الراحل الحسن الثاني في حوار أجراه معه قبل وفاته بفترة قصيرة، فقال له: جلالة الملك، لو عاد بك الزمن إلى بداية حكمك قبل 38 سنة، ما هو الأمر الذي كنت ستتخذ فيه قرارا مختلفا عن القرار الذي اتخذته بداية حكمك، فأجابه الملك بمرارة: لقد قربت مني جدا أشخاصا دون أن أخضعهم للاختبار”، وكان يقصد بعض رجالات “المخزن” النافذين، وقيل، حسب بعض المصادر، بأنه كان يقصد صديقه المقرب ومستشاره الخاص أحمد رضا أكديرة، ابن دار المخزن.
(*) باحث مغربي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية.