
اختار دونالد ترامب أن يخاطب المقاومة الفلسطينية بالعبرية، موجّهًا إنذاره الأخير إلى حركة حماس لكي تخرج من غزّة مستخدمًا عبارة “شالوم حماس”، فيما اختار وزير خارجيته أن يوجّه الرسالة نفسها في إطلالة صهيونية مسيحية مخاطباً العالم والصليب مرسومٌ على جبهته.
لم تعد هناك ذرّة شك واحدة في أنّ العالم الآن بقبضة تشكيل من العصابات الصهيونية المسلّحة يتخذ من البيت الأبيض قاعدة له ويوزّع كراهيته وتهديداته على الجميع، معلناً الولاء التام للحلم الصهيوني بوصفه العقيدة المؤسّسة للإدارة الأميركية الجديدة، التي تضم طيفاً واسعاً من الصهاينة الذين لا يخفون انطلاقهم في التعاطي مع منطقة الشرق الأوسط من أوهام وأساطير تلمودية واضحة.
يقول هؤلاء الصهاينة بوضوح إنه لا توجد دولة اسمها فلسطين، كما لا يوجد شعب فلسطيني، وليس أمام من يتمسّك بهذه الهوية سوى اختيارين: إما أن يغادر هذه الأرض ويعيش في أيّ منفى، أو إذا أراد البقاء، فليكن في خدمة إسرائيل، محض جماعة بشرية تعيش على الهامش وعلى الفتات، لا تنطق اسم فلسطين ولا تفكّر في حمل السلاح ولا تعرف شيئًا اسمه المقاومة.
هذه هي ملامح المستقبل الجميل كما يبشّر له الرئيس الأميركي، ويعد به الفلسطينيين في غزّة، وذلك بعد اجتثاث المقاومة وإخراج “حماس” منها، كما في إنذاره الأخير، الذي تشعر أنه منقول حرفيًا من كراسات بن غفير وسموتريتش ومجرمي الصهيونية الدينية، مدفوعًا مثلهم بالشعور بالثقة بأنّ نظامًا عربيًا رسميًا عربيًا يشاطره الرؤية نفسها والرغبة ذاتها في إنهاء الكفاح الفلسطيني المسلّح، وهو ما تجده واضحًا في الخطاب السياسي العربي الذي صار شغله الشاغل نزع سلاح المقاومة وإخراج “حماس” وفصائل المقاومة من المعادلات السياسية الخاصة بمستقبل غزّة.
هذه الرغبة لم تظهر بعد القمّة العربية الطارئة بالقاهرة فقط، بل هي قديمة حتى باتت من ثوابت العرب الجدد الذين لا يخفون نضالهم من أجل ضمان أمن دولة الاحتلال الصهيوني، وتجدها حاضرة في كلّ أعمال الوساطة العربية ذات الصلة بالموضوع الفلسطيني، إذ لا يكاد اتفاق تهدئة يخلو من إشارة إلى نزع سلاح المقاومة وتسليمه لسلطة محمود عبّاس، وقد كان ذلك حاضراً في اتفاق المصالحة الفلسطينية 2017 بالقاهرة، الذي تلقّفته تل أبيب وسعت إلى إعادة صياغته بحيث يكون اتفاقاً على التخلّي عن مشروع المقاومة، ونزع سلاحها، استناداً إلى حديث محمود عبّاس، طوال الوقت، عن ضرورة إخضاع سلاح المقاومة لسلطته، إذ لا يفهم من المصالحة سوى أنها وسيلة للتخلّص من فكرة المقاومة، وإسقاطها من حسابات الفعل ورد الفعل.
إصرار محمود عبّاس طوال الوقت، مدعوماً من نظام رسمي عربي، على أنّ كلّ سلاح ليس بيد سلطة رام الله هو غير شرعي، ومطالبته المستمرّة بأن تحتكر سلطته هذا السلاح هو ما يريده الكيان الصهيوني بالضبط، لأنه ببساطة سيتحوّل من سلاح مقاومة إلى سلاح للقضاء على المقاومة، على غرار ما تقوم به سلطة رام الله من مطارداتٍ وملاحقاتٍ لكلّ المقاومين في الضفة الغربية، ومن ثم يكون المطلوب من حماس وفصائل المقاومة في غزّة، لكي يرضى عنها عبّاس وترامب ونتنياهو، هو الانتحار السياسي والأخلاقي والقبول بتسليم سلاحها إلى سلطةٍ تريدها إسرائيل وتحميها.
المطلوب من “حماس” أن تختار طريقة انتحارها، إمّا أن تطلق الرصاص على نفسها، أو أن تبتلع كلّ وثائق وأدبيات مشروع التحرير الفلسطيني وتقدّم نفسها خادمة مطيعة للمشروع التوسّعي الصهيوني، وتنسف كلّ ما خطته بيدها في وثيقتها الصادرة في العام 2017 ، وبشكل خاص البنود 18-19-20 منها، التي نصّت على أنه “يعد منعدماً كلٌّ من تصريح بلفور، وصكّ الانتداب البريطاني على فلسطين، وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وكلّ ما ترتّب عليها أو ماثلها من قرارات وإجراءات؛ وإنَّ قيام “إسرائيل” باطلٌ من أساسه، وهو مناقضٌ لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، ولإرادته وإرادة الأمة، ولحقوق الإنسان التي تكفلها المواثيق الدولية، وفي مقدّمتها حقّ تقرير المصير.
– لا اعترافَ بشرعية الكيان الصهيوني؛ وإنَّ كلّ ما طرأ على أرض فلسطين من احتلال أو استيطان أو تهويد أو تغيير للمعالم أو تزوير للحقائق باطلٌ؛ فالحقوق لا تسقط بالتقادم.
– لا تنازلَ عن أيّ جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض “حماس” أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك، وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية، فإن “حماس” تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة”.
كان ذلك ولا يزال الحد الأدنى من ثوابت مشروع النضال الوطني الفلسطيني، الذي يتكتّل العرب الرسميون الآن لإضرام النار فيه، وإعلان الحرب على كلّ أشكال المقاومة، واعتبار سلاحها غير شرعي، ولا أظن أنّ حماس وشقيقاتها في فصائل المقاومة يمكن أن تخون نفسها وتخون الشعب الفلسطيني وتخون شرعية وجودها، وتسلّم سلاحها ثم تسلم رأسها للذبح.