كاينابريس – د. علاء الدين بنهادي(*)
طوفان الأقصى بين النقل والعقل
إنه حينما يعجز المرء في فهم وتفسير وتحليل الأحداث بمعايير علم السياسية والنظريات الجيواستراتيجية والنظريات العسكرية ومفاهيم ميزان القوة والردع الاستباقي، كما هو الشأن اليوم مع طوفان الأقصى، فإن القرآن الكريم، كوحي إلهي ونص مفتوح، قد تناول جملة من الأحداث شبيهة بما يجري اليوم من ناحية الموضوع وإن كان الشخوص مختلفين، إلا أنهم يحملون نفس العقيدة لدى طرفي الصراع، طرف يمثل الحق في أكبر تجلياته وحقائقه بقوة الكتاب المنزل من الله وهدي أنبيائه عليهم الصلاة والسلام وبخط الامتثال الذي يجسده أتباع الأنبياء وحوارييهم وصحابتهم، والطرف الآخر يمثل الباطل على لسان إبليس في حوار الجحود والعصيان والكبر أمام رب العالمين، وجنده من الطغاة والبغاة والأباطرة والملوك فوق الأرض منذ الأزل حتى طوفان الأقصى، إلى قيامة الأمة الكبرى.
واليوم، يخوض الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الحروب الصليبية الثمانية، حربا صليبية–صهيونية للدفاع عن الكيان الذي صنعه وزرعه في قلب الأمة الإسلامية، فلسطين، وراح وهو يسارع الوقت بالضغط في كل اتجاه، المنظمات الدولية وأنظمة عربية، خاصة ما يسمى بـ “دول الطوق“، خط الدفاع الأول للكيان الصهيوني وضمان أمنه وسلامته واستقراره في وجه أي انتفاضة أو ثورة شعبية قد تزحف نحو فلسطين المحتلة لاجتثاث هذا الورم السرطاني من جسد الأمة، وهو ما يخشاه الغرب والكيان الغاصب وأنظمة الحزام الحمائي العربية، دول الطوق، إضافة إلى أنظمة الخط الائتماني الثاني، دول التطبيع، المعنية بدمج الكيان الصهيوني في النسيج الاجتماعي والأوساط الثقافية والسياسية والتعليمية والإعلامية والجمعوية.
إنه بحسابات واقع المقاومة بكل فصائلها، في غزة والضفة، لم يسبق لها منذ إقامة الكيان الصهيوني عام 1948، بل وللجيوش العربية مجتمعة، أن أقدمت على مثل هذه المعركة في عمق بري وصل (40) كيلومترا، وقصف جوي بلغ (80) كيلومترا فوق سماء عاصمة المحتل، تل أبيب، والمدن المحيطة بها، كما أنه لم يسبق لأي جيش عربي ولا مقاومة فلسطينية أو لبنانية أن أنجزت وكبدت المحتل الصهيوني هذا العدد من القتلى والأسرى والمحتجزين والغنائم الاستراتيجية في ظرف قياسي، وقد بلغت المعركة قرابة الشهر، يعجز التحليل السياسي المعياري والنظريات العسكرية والعقل الاستخباراتي فهمه، فضلا عن تفسيره، كما أن عنصر المباغتة والمبادرة الهجومية كما ونوعا، مكانا وزمانا، وهو جهاد طلب هذه المرة، والبقاء في ميدان المعركة والالتحام حتى اللحظة، والمحافظة على المكتسبات والغنائم في غلاف غزة، بل والتقدم نحو عمق جغرافي أكبر واستهداف مواقع استراتيجية في الأراضي المحتلة مار وراء غلاف غزة، والصمود في المعركة، أمر محير عقلا.
إنه بحسابات واقع وحال المقاومة من ناحية ميزان القوة، تبقى هذه المعركة العظيمة والمفصلية في حركة الإحياء الإسلامي العالمي وصناعة تاريخ مستقبل الأمة أمام عقود من الهزائم العربية الرسمية الفاشلة، تبقى ظاهرة يقف أمامها العقل الإنساني مذهولا، وليس أمامنا، كما أخبرنا القرآن الكريم، سوى أن نكرر مع نبي الله نوح عليه السلام {رب إني مغلوب فانتصر}، أو نكرر مع قول الله سبحانه عن نبيه إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، كالنار التي يصبها اليوم الغرب والصهاينة وربائبهم من العرب البائدة على إخوتنا في غزة وفلسطين عموما، {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم}، أو نقول مع قول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وإذ يريكهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور}.
هذه هي حسابات وأخبار الغيب والسماء كما جاءت في القرآن الكريم حول الصراع بين قوى الحق والباطل عبر الزمان والمكان، حينما يصبح عقل الفهم والتفسير في حيرة بميزان معادلة القوة والتمكين، فما من قصة أوردها الحق سبحانه في القرآن للأمم المتجبرة والطاغية السابقة إلا وأخبرنا عن نهايتها في أروع تجليات العناية الإلهية بعباد الله الصالحين، وطرح لنا تصورا يتداخل فيه تدبير الغيب بحقيقة الشهادة عند عجز العقل لتصنع واقعا جديدا ومختلفا عما يراه كثير من الناس، واقعا متعاليا على حسابات الأرض وميزان قوة الأمم من خلال المفهوم القرآني للأغلبية والأقلية {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}، بل قدم لنا الباري سبحانه معادلة رياضية خلال المواجهة بين أئمة الحق وأئمة الباطل حيث قال سبحانه: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون}.
إننا لا يمكن أن نتمسك بالتفسير القاصر والضيق لما جرى في طوفان الأقصى وفق حسابات نظريات سياسية وعسكرية واستخباراتية يحاصرنا بها الغرب والكيان الصهيوني، عبر ثقافته الأحادية المتعالية وحربه الدعائية، ليحدث هزة في وجداننا وتعطيلا في عقلنا وشللا في نفسيتنا لنلوم المقاومة المشروعة عما فعلت يوم السابع من أكتوبر العظيم في غياب شروط المواجهة بالمعنى المادي الملموس، فيما لدينا أفقا قرآنيا أوسع ووعدا إلهيا مؤكدا وتجربة تاريخية حول صراع الحق والباطل بين الأمم الغابرة يسردها القرآن الكريم تفصيلا ومآلا، وليس هذا من باب الهروب من الواقع وتبرير غياب أسباب القوة والتمكين، بحسابات السياسة الواقعية، كما يحلو للبعض تسميتها، وإنما هذا منهج القرآن وهدي النبوة في علاقة شأن الأمة بالتدبير الإلهي حينما يكون المسلم أمام تحد عظيم كما هو الأمر اليوم مع تحالف الغرب الصليبي مع الصهيونية العالمية والمتصهينين العرب، ليس للرد على المقاومة في غزة وفلسطين، ولكن هناك استهداف للمنطقة برمتها، وقد استشعر الغرب، منذ اندلاع انتفاضة الربيع العربي عام 2011، بأنه لم يعد لهما مقام في هذه المنطقة لا عبر مشروعه الصهيوني ولا عبر ما تبقى من الأنظمة الوظيفية في المنطقة العربية المهددة هي أيضا بـ “قيامة” الشعوب القادمة تبعا لطوفان الأقصى.
إنه لا يمكن أن ينفتح العقل الأكاديمي والسياسي العربي والمسلم على هذه القراءة والأفق القرآني لفهم ما جرى يوم السابع من أكتوبر مع طوفان الأقصى وتداعياته وأبعاده، ما لم يكن له علاقة إيمانية وعقدية بالنص القرآني والوعد الإلهي في الكتاب، حيث قال تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا}، وهذا إخبار من الغيب للاستعداد لبناء مستقبل أفضل، إنه وعيد لبني إسرائيل ووعد إلى عباد الله {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعدا مفعولا}، وعيد لبني إسرائيل في كل زمان ومكان ووعد لعباد الله الصالحين في كل زمان ومكان.
من ربيع تونس إلى طوفان الأقصى.. إلى قيامة الأمة
إذا كان ربيع تونس قد تسبب في سقوط أنظمة عام 2011 وأدخل أخرى في جحر الصهيوصليبية عبر التطبيع لتنجو من غضب شعوبها مرة أخرى، وأربك حسابات الغرب والصهيونية في منطقتنا العربية، فإن طوفان الأقصى قد وضع ما تبقى من أنظمة ما بعد الربيع العربي والكيان الصهيوني والغرب عموما بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أمام مصير حتمي في أفق نهاية العقد الحالي ومطلع العشرية الثالثة الحاسمة من الألفية الحالية، عنوانه الأبرز زوال العصر الذهبي الغربي الصليبي الصهيوني، وإغلاق قوس “سايكس بيكو” الاستعماري، 1916، وسقوط وعد بلفور، وإنهاء مرحلة التتبير الجيوسياسي والعلو الكبير لبني إسرائيل انطلاقا من طوفان الأقصى، مرحلة سيساهم في صناعة ملحمتها النخبة الإسلامية بعد إسقاط الحدود الاستعمارية بين دولها، وتجاوز حاجز الأنظمة الحليفة للصهيونية والغرب. هذا ليس مشهدا افتراضيا ولا واقعا متخيلا، وإنما هي تطورات سريعة ومعقدة تجري في منطقتنا والعالم منذ فترة وتتأكد اليوم مع طوفان الأقصى الاستراتيجي وتداعياته الجيوسياسية.
إن ما يجري في غزة وفلسطين، عموما، بل وفي الشام بالمعنى الواسع، وما يعنيه طوفان الأقصى في دلالاته وأبعاده، وبما هو حقيقة طوفان بالمعنى الذي ذكره القرآن الكريم حول “طوفان نوح“، أي بمعنى “الإحياء” الجديد لأي شيء، إحياء البشرية أو إحياء نظام بعد إنهاء نوع آخر من البشرية الخاطئة والضالة وإنهاء نظام ظالم محلي أو إقليمي مهيمن لقرون كما حصل مع “نظام مكة” بعد فتحها أو نظام “الدولة الصليبية” في القدس وفلسطين بعد تحريره، أو نظام الاستعمار الأوروبي في كثير من البلاد العربية منتصف القرن الماضي بعد استقلالها، أو إنهاء “نظام بلفور” وما انتهى به بإقامة هذا الكيان الصهيوني الاستعماري الغاصب وإنهاء مرحلة “الحكم الجبري“، ليبدأ عصر وعهد جديد مع طوفان الأقصى.
إن طوفان الأقصى هو “الموجة” الثانية لانتفاضة الشعوب العربية بعد أكثر من عقد من الانتفاضة الأولى عام 2011، وإجهاضها من قبل الغرب والصهاينة والأنظمة العربية الوظيفية، وهذا التقلب بين الهزيمة والانتصار هو سنة اجتماعية وحقيقة تاريخية وسياسية، وهو ما وقع غداة الربيع العربي، وذكره القرآن الكريم في سورة الإسراء بالنسبة لتغير أحوال بني إسرائيل بين الهزيمة والانتصار وبين العلو والانكسار، وفي حالات أخرى ذكرت قصصها في القرآن وفي كتب التاريخ والسير، لكن هذه “الموجة” مختلفة في الدرجة والطبيعة، حيث أراد من أطلق شرارتها، في عالم الغيب والشهادة، أن تكون طوفانا يعم البلاد العربية، بل العالم، لتنهض شعوبها وتنتفض في وجه أنظمتها المعطلة لاستقلال ونهضة الأمة، ويصيب لهيبها وحرائقها كل العواصم العربية والغربية على حد سواء كما فعل الربيع العربي قبل أكثر من عقد، وأن تحدث نقلة جذرية ونوعية في وعي الشعوب العربية والغربية تجاه أنظمتها السياسية، لأن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة تستعمل هذه الحكومات والأنظمة، عندها وعندنا، كخط دفاع أمامي في مخططاتها الاستراتيجية لمواجهة المقاومة الجهادية في فلسطين وفي البلاد العربية ومواجهة احتجاجات شعوبها المتصاعدة، وللدفاع عن مشروعها التوسعي السرطاني المسمى “إسرائيل” في قلب العالم العربي والإسلامي، فلسطين والتوسع نحو المشروع الأكبر، “إسرائيل الكبرى” واحتلال العديد من الأراضي العربية في المنطقة.
طوفان الأقصى.. النكبة المضادة قبل الزوال: 1948-2023-2028
حينما نتأمل قصة بني إسرائيل في سورة الإسراء كيف عرضها الحق سبحانه بين استضعاف وتمكين واستضعاف، وهي سنة التداول بين الانكسار والانتصار لدى الأمم، وقد وقعت كذلك، في السياق القصصي للقرآني الكريم، بين الروم والفرس، انكسار وانتصار، جولة للفرس على الروم ثم علو الروم وهزيمة الفرس، لتبدأ سنة تاريخية ومرحلة جيوسياسية جديدة بعلو الدولة الإسلامية انطلاقا المدينة المنورة وسقوط الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، وسقطت معها الدول الصغيرة في جزيرة العرب التي كانت تدور في فلكها. هذا ما يجري اليوم، حيث بداية سقوط الإمبراطورية الأمريكية ومعها، تباعا، الدول الأوروبية الموالية لها والعربية التابعة لها، ليسدل الستار على حقبة تاريخية امتدت على مدى أربعة قرون من الاستعمار والإبادة للسكان الأصليين والاستغلال لثروات الشعوب وتهجيرها من أوطانها الأصلية كما حصل مع الأفارقة واتخاذهم عبيدا في الأراضي الأمريكية بقيادة نخبة الجيل الثالث والرابع من أبناء المعمرين الأوروبيين. هذا هو الاستعمار الإحلالي الذي غرسته أوروبا في أمريكا ونيوزلندا وأستراليا، وتحاول تنفيذه منذ أن غرست البذرة الصهيونية في أرض فلسطين المحتلة عام 1948 لتحل يهود الشتات محل الشعب الفلسطيني صاحب الأرض الأصلي.
واليوم، مع طوفان الأقصى، وفي سياق التداول في امتلاك القوة والثروة والنفوذ، والعلو والتمكين، وبعد سلسلة من الأحداث الصغيرة والكبيرة التي عرفتها الأمة العربية والإسلامية كان أبرزها الإحياء الجهادي الإسلامي في أفغانستان والشيشان، وحرب العراق والبوسنة والهرسك والربيع العربي وسقوط بعض أنظمة الحكم الجبري وحروب الكيان الصهيوني ضد لبنان وغزة (فلسطين)، انطلقت حركة تاريخية استراتيجية غير قابلة للقياس بالمعايير السياسية والتقديرات المنهجية والمقاربات العلمية والتوقعات الأمنية والاستخباراتية، حركة يمتزج فيها عالم الشهادة بعالم الغيب، وتلتحم فيها المشيئة الإلهية بالإرادة المسلمة {بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بئس شديد فجاسوا خلال الديار}، الإسراء)، ويتحقق فيها الوعد الديني الاستشرافي وسنن التداول بين الانكسار والانتصار، بين الاستعمار والتحرير.
وإذا كانت حرب 1948، تاريخ تأسيس الكيان الصهيوني الغاصب من قبل الغرب على أرض فلسطين بمثابة نكبة الأمة الثالثة بعد سقوط الأندلس عام 1492، وسقوط الخلافة العثمانية عام 1924، فإن طوفان الأقصى لهذا العام، 2023، قد أعلن بداية كتابة تاريخ مستقبل الأمة من حيث الدلالات التي يحملها هذا الطوفان في معناه ومبناه، ومنطلقاته وأهداف القريبة والمتوسطة والبعيدة المدى، كما أنه يمثل نكبة للكيان الصهيوني منذ تأسيسه المشؤوم.
إن سياق المجتمعات العربية والإسلامية واحد من ناحية التاريخ والهوية وطبيعة نظام الحكم والاستهداف الغربي الصليبي الصهيوني والمسار والمصير، والأحداث التي مرت عليها خلال المائة سنة الماضية تتداخل فيما بينها، من تفكيك وإعادة تركيب وفق حملة استراتيجية صليبية وصهيونية عبر مراحل متتالية، كما أن الغرب حينما يتصدى لأي محاولة لاستنهاض همة الأمة وإحياء وعيها وضميرها في هذا القطر أو ذاك، فإنه يعمل لإجهاض أي روح جديدة في جسم الأمة الإسلامية قد تكون هي نقطة الارتكاز في إعادة إحياء الأمة من موقع القوة والكرامة والعزة، ويعمل على “شيطنة” هذه الروح كما يفعل اليوم مع طوفان الأقصى وقوتها الضاربة حركة حماس وذراعها العسكري “القسام” وباقي فصائل المقاومة، عبر وسائل الإعلام والدعاية ووسائل التواصل الاجتماعية والدبلوماسية والضغوط والتهديدات العسكرية والمساومات الاقتصادية والمالية لضمان وقوف أنظمة الحزام العربي الحمائي والائتماني لدولة الكيان الصهيوني، واصطفافها معه لعزل حركة المقاومة، في فلسطين وفي أي مكان آخر في المنطقة العربية، عن حاضنتها الشعبية المحلية والعالمية.
ماذا بعد طوفان الأقصى؟ زوال الكيان الصهيوني الوظيفي وتغيير الخريطة الجيوسياسية في المنطقة
إن ما جرى في السابع من أكتوبر العظيم، ويجب بالمناسبة بأن نسمي انتصاراتنا بالعبارات التي ترفع الهمة لدى شبابنا وشعوبنا وتقذف الرعب في قلوب أعدائنا (نصرت بالرعب مسيرة شهر، الحديث)، بكل الحسابات والتخطيطات التي وضعتها وقررتها المقاومة المجاهدة في غزة وفلسطين، ليس فيه خط رجعة أو مفاوضات سياسية على حساب الاستراتيجية العسكرية وأهدافها، كما كان يجري في السابق، وقد عبر قادة الكيان الصهيوني وحليفهم الاستراتيجي، أمريكا، وباقي الدول الغربية، عن أهدافهم المعلنة دون الخفية من هذه الحرب، التي تتجاوز جغرافية غزة وفلسطين بالنظر لحجم الحشود العسكرية الصهيونية والغربية والعمليات التدميرية المنفذة والجولات الدبلوماسية المكوكية الغربية للمنطقة للضغط والتخويف والمساومة.
ليس أمام رجال طوفان الأقصى سوى المواجهة الشاملة لتحرير فلسطين كاملة، وهو ما سيؤدي حتما لتغيير جيوسياسي جذري في المنطقة العربية خاصة دول الحزام الحمائي والائتماني العربية، أو، لا قدر الله، وهو أمر مستبعد إلى حد كبير اعتبارا لعوامل كثيرة تم ذكرها آنفا، أهمها، بشارات القرآن الكريم ونبوءات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، أو ندخل في دوامة استعمارية جديدة لعقود، ولا يستبعد أن تصبح البلاد العربية مسرحا للمواجهة والأطماع بين أمريكا ومن يدور في فلكها من جهة، والروس والصين ومن يتحالف معهما من جهة أخرى.
وإذا كان طوفان الأقصى قد جعل الكيان الصهيوني والغرب يكشفون عن أهدافهم الاستراتيجية في فلسطين والمنطقة العربية، فإن أحد تداعيات الطوفان ودلالاته، وهو ما تخشاه أمريكا وأوروبا والكيان الصهيوني، هو انفجار الوضع الشعبي في البلاد العربية، خاصة الدول الحامية لحدود الكيان الصهيوني والمطبعة معه، مما قد يترتب عنه سقوط هذه الأنظمة وزوال الحدود مع الكيان الصهيوني وتوسع دائرة الأحداث لتشمل الإقليم والعالم، لتدخل البشرية في أخطر مرحلة من تاريخها المعاصر، وهي، كما قال خبير الدراسات المستقبلية المغربي المهدي المنجرة في كتابه “الحرب الصليبية الثامنة“، نشر عقب التحالف الدولي ضد العراق عام 1991، بأن حروب المستقبل بين الغرب والعالم الإسلامي ستخوضها الشعوب وليس الجيوش، وهو ما نراه اليوم بعد طوفان الأقصى والجرائم الصهيوني في حق أهلنا في غزة وفلسطين بدعم مطلق من أمريكا وأوروبا وبعد أنظمة عربية.
إن الذي أو الذين اتخذوا قرار معركة طوفان الأقصى في حركة حماس وقيادة أركانها العسكرية، كتائب القسام، في السابع من أكتوبر الجاري، هم أحد رجلين، إما رجل مجنون متهور لم يحسب عواقب هذه المعركة ليس على مستقبل حماس فحسب، بل على مستقبل القضية الفلسطينية، وأيضا مستقبل المنطقة العربية والإسلامية والعالم، أو رجل جمع بين العقيدة الراسخة بأن النصر من عند الله واليقين في وعده وتدبيره، وبين الحكمة السياسية والتخطيط العسكري الاستراتيجي، والفهم الدقيق للسياق التاريخي ومرحلة الصراع مع الكيان الصهيوني وحليفه الغربي، وبعض دول المنطقة العربية التي تعمل منذ فترة على تصفية القضية الفلسطينية، وبين العقل الاستراتيجي المستوعب لتعقيدات ومأزق والحالة الداخلية للكيان الصهيوني اليوم وغدا، مجتمعا وحكومة، والمدرك لحالة الاحتقان والغليان في الشارع العربي بعد أكثر من عقد من اندلاع الربيع العربي عام 2011.
إن النصوص القرآنية والنبوءات النبوية والسياق الإقليمي والدولي الحالي وتطور الأحداث في اتجاهات متعددة ومعقدة وتجربة تاريخ الأمم عموما، وتاريخ الصراع بين الحملات الصليبية والصهيونية والإسلام منذ 1400 سنة، تؤكد بأن من اتخذ قرار معركة طوفان الأقصى بتفاصيلها المعلنة وغير المعلنة ومجرياتها حتى اليوم هو من النوع الثاني، وتؤكد بأن العمل الذي قام به يوم السابع من أكتوبر 2023 أراد به إحداث زلزال يهز الأرض من تحت أقدام الجميع، الكيان الصهيوني وأمريكا وأوروبا والدول العربية والإسلامية والعالم، ويخلط به كل الأوراق وينهي مسلسل التطبيع، ويعيد القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث العالمية، ويفرض أجندة خارج كل الحسابات السياسية والعسكرية والاستخباراتية والاستراتيجية، ولا يمكن لمن بادر بإشعال هذه المعركة بهذا الحجم والبعد والخطورة قد اعتمد فقط على إمكاناته الذاتية والدعم من هذه الجهة أو تلك، وإنما قد بلغ درجة اليقين في وعد الله ونصره حدا كبيرا، وقرأ جيدا المشهد الإقليمي والدولي وحالة العالم اليوم والوضع الداخلي للكيان الصهيوني، وبأن ما يجري في غزة وربما المنطقة العربية من تدمير شامل هو تدمير قبل الزوال، فكان عنوان المرحلة “طوفان الأقصى“.
(*) باحث مغربي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية.