غزة.. صمت بوريطة المخجل

يونس مسكين19 مارس 2025
يونس مسكين

إنها ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي نكتشف فيها أن الصمت الذي التزمته الدبلوماسية المغربية تجاه العدوان الجديد على غزة ليس محايدا، بل هو موقف في حد ذاته.

فمنذ فجر أمس الثلاثاء 18 مارس 2025، حين أسقطت إسرائيل أكثر من 400 شهيد، وأغرقت غزة في بحر جديد من الدماء، لم يسمع المغاربة سوى هتافات الشوارع وهي تهتف لفلسطين، بينما ظل موقف الدولة المغربية، ممثلة في وزير خارجيتنا ناصر بوريطة، متواريا خلف جدران الغموض، ممتنعا حتى عن التعبير عن أبسط أشكال الإدانة أو الأسف.

هذا يعني أن المشكلة اليوم ليست في طبيعة العلاقات المغربية- الإسرائيلية، إذ لا يوجد في القوانين الدبلوماسية ما يمنع دولة من إدانة مجازر ترتكبها دولة أخرى لمجرد وجود علاقات رسمية بينهما. بل المشكلة ربّما تكون أخطر وأعمق.

هناك العديد من الدول التي تربطها بإسرائيل اتفاقيات تعاون، لكنها لم تتردد في توجيه انتقادات حادة للعدوان، بل حتى في اتخاذ إجراءات دبلوماسية صارمة.

حتى المغرب لم يكن في الماضي يلتزم هذا الصمت المطبق، بل كان يجرؤ –حتى في عز العدوان الإسرائيلي على غزة– على إدانة بعض المجازر الوحشية الكبرى، ولو ببيانات رسمية خجولة، لكنها كانت تعكس على الأقل الحد الأدنى من الالتزام الأخلاقي والإنساني.

فما الذي تغيّر اليوم حتى يصبح ردّنا الرسمي هو الصمت المطبق؟

هل أُجبر المغرب على تكميم صوته، أم أن حسابات ضيقة جعلت الدولة المغربية تتنازل عن كرامتها السياسية أمام آلة الحرب الإسرائيلية؟

لقد كان خطاب المسؤولين المغاربة، عند إعلان اتفاقات التطبيع، في صيغتها الثلاثية المغربية الأمريكية الإسرائيلية، واضحا في التأكيد على أن هذه العلاقات لن تؤثر على التزام المغرب تجاه القضية الفلسطينية.

واليوم، وبعد أكثر من أربع سنوات على ذلك الإعلان، نجد أنفسنا أمام اختبار حقيقي لهذه التأكيدات.

فهل يكون الرد على هذا العدوان الصارخ هو الصمت؟ وأين هي الضمانات التي قدمتها الدبلوماسية المغربية بأن فلسطين ستظل في مستوى القضية الوطنية الأولى؟

لا يمكننا القبول بالطرح الذي يروج له البعض، ضمنيا، بأن العلاقات الرسمية تعني التخلي عن المواقف الأخلاقية. فحتى داخل الدول التي وقّعت اتفاقيات مع إسرائيل، نجد لها مواقف متباينة، تارة رافضة وتارة محتجة، دون أن يعني ذلك بالضرورة إلغاء الاتفاقيات.

والسياسة ليست تناوبا بين أبيض وأسود، بل تحتمل منطقا بسيطا: لا يمكن الصمت على المجازر، خاصة إذا كان الشارع يغلي غضبا ويطالب بالاستجابة لشعاراته.

لقد تابعنا كيف خرج مئات الآلاف من المغاربة مساء أمس الثلاثاء 18 مارس 2025 إلى الشوارع، في الدار البيضاء وطنجة والرباط والجديدة ومراكش وغيرها من المدن، يهتفون باسم غزة ويدينون الاحتلال الإسرائيلي، بينما بقيت مؤسسات الدولة في عزلة عن هذا الحراك، كأنها تعيش في زمن آخر، أو كأنها تراقب من بعيد مشهدا لا يعنيها.

لم تكن هذه المظاهرات مجرد موجة غضب عابرة، بل كانت إعلانا صاخبا بأن الفجوة بين المجتمع والدولة تتسع بشكل مخيف.

فكيف يمكن لحكومة تدّعي تمثيل الشعب أن تظل صامتة أمام هذه المجازر؟ كيف يمكنها أن تتجاهل صرخات المواطنين، الذين خرجوا بعشرات الآلاف مطالبين بإلغاء التطبيع، بينما تصر الحكومة على دفن رأسها في الرمال، متوهمة أن الصمت يمكن أن يكون استراتيجية سياسية؟

إن الدبلوماسية، في أي بلد، ليست مجرد أداة لتعزيز العلاقات الثنائية، بل هي انعكاس لسيادة الدولة وقدرتها على التعبير عن مواقفها بحرية. وإذا كان المغرب، وهو الذي يترأس لجنة القدس، غير قادر على اتخاذ موقف، ولو رمزي، تجاه هذا القصف الوحشي، فما الذي تبقى إذًا من استقلالية القرار السياسي؟

لم يكن مطلوبا إعلان القطيعة مع إسرائيل، ولم يكن أحد يتوقع موقفا ثوريا راديكاليا، لكن المغاربة كانوا ينتظرون على الأقل موقفا يتسم بالحد الأدنى من الجرأة، وتصريحا يعبّر عن رفض القتل الجماعي، أو حتى استدعاء ممثلنا في تل أبيب للتشاور، تمامًا كما فعلت دول تربطها بإسرائيل مصالح استراتيجية كبرى، لكنها لم تختر التزام الصمت.

إن موقف الحكومة المغربية اليوم ليس صادما فقط، بل هو وصمة عار في جبيننا جميعا. وعندما تتحول الحكومة إلى آلة صامتة، متجاهلة لنداءات شعبها، فذلك لا يعني سوى شيء واحد: أننا أمام سلطة اختارت الاستسلام بدل المواجهة، والانبطاح بدل التعبير عن الحد الأدنى من المروءة السياسية.

لقد بات واضحا أن صمت الدولة ليس مجرد خيار دبلوماسي، بل هو جزء من سياسة ممنهجة، قائمة على التواطؤ السلبي مع الاحتلال. وإلا كيف نفسر هذا التجاهل المريب لكل هذه الجرائم؟ هل تخشى الدولة المغربية على علاقاتها أكثر مما تخشى على صورتها أمام شعبها؟ وهل أصبح القتل الجماعي في غزة أمرا لا يستحق حتى تعليقا رسميا؟

إن ما حدث في اليومين الماضيين هو أكثر من مجرد عدوان إسرائيلي جديد على غزة، وأكثر من مجرد صمت رسمي مغربي. إنه لحظة تكشف مدى الخلل العميق في العلاقة بين الدولة والمجتمع.

لقد خرج المغاربة إلى الشوارع لأنهم أدركوا أن أصواتهم وحدها هي التي يمكنها الحديث عن فلسطين، بينما مؤسسات الدولة منشغلة بحساباتها الخاصة.

إن التاريخ يسجل المواقف، ويضع الدول أمام محكمة الضمير، وحين تخفق الحكومات في قول كلمة حق، فإن الشوارع تتكفل بالمهمة.

فهل تنصت الدولة المغربية إلى هذا الصوت الصاخب، أم أنها قررت الاستمرار في الاختباء وراء صمتها المخجل؟


يونس مسكين | كاتب صحفي مغربي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل