كاينابريس – حسن أوريد(*)
عنونت مجلة “النوفيل أوبسرفاتور” (Nouvel Observateur)، وهي أسبوعية فرنسية رصينة، نتائج الدور الثاني للانتخابات التشريعية التي انعقدت في 7 يوليو/تموز الجاري، بـ”القفز إلى المجهول”. كانت نتائج انتخابات غير مسبوقة، تجعل الهندسة الدستورية الفرنسية على المحكّ، ويمكن أن تؤثر على دور فرنسا ومكانتها الدولية في سياق التحوّلات الكبرى.
تحالفات هجينة
كان الدور الثاني من الانتخابات الأخيرة مفاجأة متعددة الجوانب. كان الجميع يتوقع صدارة حزب “التجمع الوطني” (اليميني المتطرف)، وفقًا لاستطلاعات الرأي والتوجه الغالب، وكان يرتقب أن يكون الفتى اليميني جوردان بارديلا رئيسًا للوزراء، ولكن المفاجأة هي تصدر “الجبهة الشعبية الجديدة” (المتفرعة عن تنظيم “فرنسا الأبية” الذي يرأسه جان لوك ميلانشون)، وتدارك ائتلاف “النهضة” الذي يتمحور حول حزب الرئيس “جميعًا” للرتبة الثانية، وتراجع “التجمع الوطني” إلى الرتبة الثالثة.
لكن هذه القوى الثلاث عاجزة عن بلوغ الأغلبية المطلقة، أو أغلبية مريحة تمكنها من تشكيل حكومة. ينتهي الأمر إلى بلقنة تعيد إلى الأذهان سابقة الجمهورية الرابعة في فرنسا، أي الهندسة الدستورية التي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية حتى 1958، وما طبعها من عدم استقرار حكومي وسياسي، من خلال تشرذم المشهد الحزبي وهيمنة الجمعية الوطنية (البرلمان).
يتنفس كثير من السياسيين وأصحاب الرأي الصعداء؛ لأن الانتخابات لم تُكرّس حزب “التجمع الوطني”، ولكنها تزُجّ بفرنسا إلى المجهول، لأنه ليس هناك حزب يحظى بالأغلبية المطلقة، ولا يستطيع أن يشكل أغلبية إلا في ظل تحالفات هجينة، بل غير طبيعية. لقد أقدم الرئيس الفرنسي ماكرون على حل الجمعية الوطنية (البرلمان)، من أجل الوضوح، لكن النتائج زادت الغموض غموضًا.
بيدَ أن الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة لم تَبق شأنًا فرنسيًا، فقد استرعت اهتمام الأوروبيين؛ خوفًا من صعود اليمين المتطرف المعروف بتوجهه المشكك في التوجه الأوروبي، وكانت أنظار البلدان المغاربية وبخاصة الجزائر والمغرب مُنصبة عليها لمدى تأثيرها على العلاقات معها، وعلى جاليتها.
نهاية الماكرونية
اللافت في الانتخابات الفرنسية الأخيرة هو مدى صلابة الاتجاهات الشعبوية اليسارية، وهو أمر يغفله كثير من المحللين، بتصدر حزب “الجبهة الشعبية الجديدة” نتائجَ الانتخابات، بعد أسبوع واحد من فوز حزب العمال البريطاني، مما يشي بعودة الاهتمامات الاجتماعية للصدارة والتي حجبتها النيوليبرالية وخطابها والخيارات الناجمة عنها باسم الفاعليّة.
أما الاستنتاج الثاني، فهو أن حزب “التجمع الوطني” (اليميني المتطرف)، لئِن انهزم، فليس معناه أنه دُحر، وهو ما عبّرت عنه مارين لوبان بالنصر المؤجل. يعود عدم تصدر الحزب المشهدَ السياسي إلى تحالفات نشأت لقطع الطريق أمامه ولتعبئة قوية من أجل دفع من لا يصوتون للتصويت، ولكن لا يمكن تصور الحياة السياسية مستقبلًا في فرنسا من دون حزب “التجمع الوطني” وخطابه ومرجعياته.
أما الاستنتاج الثالث، فهو تراجع الوسط أو الخيار الثالث، والذي مثّلت حركة الرئيس ماكرون “إلى الأمام” قطب رحاه، وما نعته بعض علماء السياسة بالسياسة الجديدة التي تقفز على الأحزاب والهيئات الوسيطة من أجل حلول تقنية للقضايا السياسية. أفرزت الانتخابات الأخيرة نهاية ما يسمى بالماكرونية.
لقد أبانت السياسة الجديدة، التي تعير الأولوية للمقاربة التقنية، ووجهها اللامع ماكرون، عن قصورها، وأجمعت الكتابات الفرنسية المؤثرة على كيل اللوم للرئيس ماكرون، الذي خرج ضعيفًا من الاستحقاقات الأخيرة. استطاع ائتلاف الرئيس “النهضة” أن يصمد ويتدارك اندحاره الذي بدا جليًا في الانتخابات الأوروبية، ولكن تداركه مرحلي، وهي نهاية سياسة الوسط أو التوافق الزائف كما تسميه شانتال موف، مُنظرة الشعبوية اليسارية.
بيدَ أن الأهم هو أن نتائج الانتخابات الأخيرة تضع المؤسسات الفرنسية على المحك. فقد تمخضت عن إضعاف الرئيس الذي اختار حلّ البرلمان لانتخابات سابقة لأوانها، من أجل الوضوح، كما زعم، فإذا هو يزيد الطين بلة، والمشهد تعقيدًا. وأيًا كانت السيناريوهات، سيؤول الأمر إلى “رئيس وزراء” ضعيف، لأنه من غير أغلبية، وإلى جمعية وطنية (برلمان) ضعيفة، لأنها موزعة. ولا يمكن تكوين مؤسسات قوية عبر جمع قوى ضعيفة، كما تقول أسبوعية “لوبوان” (Le Point).
وهكذا يبرز السؤال الكبير لدى كثير من أصحاب الرأي في فرنسا عن مآل الجمهورية الخامسة، وهي الهندسة الدستورية التي أتى بها ديغول سنة 1958، لوضع حد لتشرذم المشهد الحزبي وعدم الاستقرار الحكومي. ذلك أن كل المؤشرات، حسب المحللين في فرنسا، تعيد عقرب الساعة إلى الجمهورية الرابعة، أي إلى عدم الاستقرار الحكومي.
هل تستطيع فرنسا اجتياز الاختبار في ظل مؤسسات الدستور القائم، أم أن التشرذم الحزبي وعدم قابلية الحكم سينتهيان بشلل المؤسسات القائمة، ويُفضيان إلى هندسة دستورية جديدة، أي أن جمهورية سادسة تلوح في الأفق؟
كان أكبر اختبار لمؤسسات الجمهورية الخامسة سنة 1986، حين فاز “التجمع من أجل الجمهورية” (اليميني) الذي يترأسه جاك شيراك، مع رئيس اشتراكي (ميتران)، وظهر ما سُمي بـ”التساكن”، وعاش “التساكن” مع ميتران وبلادور، ثم مع شيراك وجوسبان (اليساري)، من دون أن يؤثر ذلك على سير المؤسسات.
أزمة بنيوية عميقة
لكننا الآن أمام شيء جديد، وهو تحول الثقل إلى البرلمان، مع ما قد يصاحب ذلك من عدم استقرار وضعف الحكومة، وهو السيناريو الذي يُذكّر بالحالة الإيطالية التي عانت “بلقنة” البرلمان، بيدَ أن إيطاليا تجاوزت هذه الحالة من خلال ماريو دراغي، الذي استطاع أن يجمع الأشتات، لكن ليس لفرنسا شخصية تحظى بالإجماع كما ماريو دراغي، وهو ما يعبر عنه أصحاب الرأي في فرنسا بكثير من الأسى والخوف من المجهول.
والسؤال الكبير الكامن وراء الاعتبارات الدستورية، هل تثبت فرنسا، وهي تعرف نموًا سلبيًا، ووضعًا اجتماعيًا متوترًا، وحالة أرخبيلية كما ينعتها بعض علماء الاجتماع، أي مكونات مجتمعية منفصلة عن بعضها البعض من النواحي الجهوية والثقافية والطبقية؟
هل يكون القفز نحو المجهول، الذي آلت إليه الانتخابات الأخيرة، محفزًا لهبّة يأملها كثير من السياسيين ورجال الرأي؟ ولكن لا هبّة تأتي دون تصور للمستقبل ورجال يحملون هذا التصور. أم أن الأزمة الدستورية هي رأس الجبل الجليدي لأزمة بنيوية عميقة؟
لقد دأبت فرنسا كما يقول الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري، أن تسافر في الدرجة الأولى بتذكرة الدرجة الثانية. فهل آن الأوان لتعود لوضعها الطبيعي، كي تسافر في الدرجة الثانية، أي قوة متوسطة ذات أدوار متوسطة، وليس قوة متوسطة تريد أن تلعب أدوارًا كبرى؟
(*) كاتب وأكاديمي مغربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.