في العراء سواء

يونس مسكين12 مارس 2025
يونس مسكين

“نأمل في الله وفيكم… تقهرنا… سوف يظهر الحق ولو اعتقلنا جميعا”.

هذه ليست عبارات شخص مختطف أو رهينة محتجزة في قمة جبل معزول، بل رسائل مواطن مغربي بعثها إلي بعدما نشرنا في “صوت المغرب” مقطعا قصيرا يُظهر جزءا من معاناة ساكنة قرية “ثلاث نيعقوب” التي تلتحف العراء وتختبئ داخل الخيام في عز الشتاء، بعد مرور أكثر من عام ونصف على انهيار بيوتهم في زلزال 8 شتنبر 2023.

لم نكن قطّ سعداء ونحن ننشر تلك اللقطات التي صدمت الكثيرين حول مصير مجموعة من شركائنا في الوطن والمواطنة. ولم نكن نتمنى أن يكون مغربي واحد على تلك الحال؛ لكن الحقيقة أكبر منا ومن أمانينا.

والمؤلم في هذه القصة ليس مجرد التقصير والإهمال، بل ذلك الخوف الذي صار يتغلغل في النفوس، ويجعل الناس يختارون المعاناة في صمت، خشية أن يتحول تضامنهم إلى تهمة، وأن يصبح تعبيرهم عن الغضب طريقا نحو المحاكمات والاعتقالات.

لم يعد الأمر يتعلق فقط ببطء الاستجابة أو ضعف التدبير، بل أصبح المناخ العام مشحونا برهبة تمنع حتى الضحايا من الصراخ، وتدفع من يساندهم إلى التراجع، بعدما رأى كيف انتهى مصير كثير من النشطاء المدنيين الذين وقفوا إلى جانب المنكوبين، لا لشيء سوى لأنهم رفضوا أن يُترك المظلومون وحدهم وسط الركام.

المحزن هو أن نكمم الأفواه بالاعتقالات والمحاكمات، ونحاصر الأصوات الغاضبة بالإجراءات والتهم، ونفرض الصمت كما لو كان فضيلة وطنية تقابله الخيانة، وعندما يضيق الخناق ويجد الناس أنفسهم بلا منفذ، يلجؤون إلى من يتحدث بصوت عال من الخارج، إلى أصوات قد تكون مناضلة، وقد تكون مجرد أصوات شاردة تبحث عن جمهور، لكنها على الأقل تتكلم، وتكسر الجدار الذي بنيناه حول الحقيقة.

عوض أن نسأل أنفسنا لماذا لم نترك لهم أحدا في الداخل يمكنهم الوثوق به، ولماذا لم نصنع فضاء يسمح بالنقاش الصادق داخل الوطن، نشهر في وجه الجميع سلاح التخوين، ونرفع راية “الأجندات الخارجية”، ونحذر من المؤامرات، كما لو أن كل من ينتقد السلطة يتحول تلقائيا إلى عدو للوطن، وكأن الوطنية باتت تعني فقط القبول بكل شيء دون اعتراض.

نطارد الأصوات حتى تتلاشى، ثم نفاجأ حين نكتشف أنها لم تختف، بل وجدت لنفسها منابر أخرى، هناك حيث لا تصل يد القمع، ولا تُسمع إلا الحقيقة، ولو بصوت غير الذي كنا نفضله.

يقال إن المدن العظيمة تبنى بالإنجازات، لكن هنا، يبدو أن العظمة تُقاس بعدد المشاريع التي تُشيّد على أنقاض بيوت سكانها.

القطارات فائقة السرعة، والموانئ الضخمة، والمدن الذكية تتصدر العناوين، لكنها تخفي وراءها واقعا آخر، حيث يجد آلاف المغاربة أنفسهم في العراء، بعضهم في القرى النائية التي تبتلعها الكوارث الطبيعية، وبعضهم في قلب المدن التي تلتهمهم قرارات غير مرئية تصدر في مكاتب بعيدة.

في ثلاث نيعقوب، تلك القرية الجبلية التي هزّها زلزال الحوز قبل عام ونصف، لم يبق سوى البرد والخيام المهترئة. يومها تحركت السلطات بسرعة، انتشرت الكاميرات، وتسابقت الشخصيات العمومية لتقديم الوعود، لكن سرعان ما اختفت كل تلك الوجوه، وبقيت العائلات تواجه قسوة الجبال وحدها.

هناك، لا حديث عن إعادة إعمار، ولا مخططات إسكان عاجلة، فقط انتظار بلا نهاية، وكأن الزمن قد تجمد في لحظة الكارثة، وكأن الضحايا لم يعودوا يستحقون الالتفات إليهم بعد أن تلاشت صورهم من واجهات الإعلام.

لكن الحكاية ليست حكرا على قرى الأطلس. بل هناك حكاية تشببها في قلب العاصمة، حيث يُفترض أن تكون صورة الدولة أكثر وضوحا، يُنتزع سكان حي المحيط من بيوتهم، ليس بسبب زلزال أو فيضان، بل لأن جرافات التنمية قررت أن وجودهم لم يعد مناسبا.

لا توجد أحكام قضائية بالإفراغ، ولا تعويضات، فقط أوامر إدارية غير قابلة للنقاش، تنفذها الجرافات، ويحرسها الأمن، فيما يُلقى بالسكان إلى مصير مجهول.

في أقاصي جبال الأطلس كما في مدن تدّعي الحداثة، لا مكان للضعفاء. وإن كنت تسكن بيتا قديما في منطقة صارت فجأة “محورية”، فاعلم أن الوقت قد حان لترحل، لأن المخطط الجديد لا يتسع لك.

ما يجري اليوم في ثلاث نيعقوب والرباط ليس سوى انعكاس لفلسفة عمرانية ترى في البناء مجرد أداة للتباهي، لا لحماية الناس وإيوائهم.

كيف يمكن لمنظومة تخطط لمدن المستقبل أن تعجز عن إعادة بناء بيوت دمّرها زلزال؟
كيف تهدم منازل في العاصمة دون أي اعتبار لإنسانية من يسكنها؟
هل أصبح المغرب بلدا يُبنى فيه كل شيء، باستثناء الإنسان؟

تزعم الخطابات الرسمية أن المواطن هو محور التنمية، وفي الواقع، هو أول ضحاياها. المسؤولون الذين يقفون أمام الكاميرات ليتحدثوا عن “رؤية 2030” و”المغرب الصاعد”، هم أنفسهم الذين يغضون الطرف عن سكان الجبال المحاصرين بالثلوج، وعن الأسر التي تشرّدت بعد أن سوت الجرافات بيوتها بالأرض.

تبدو المعادلة واضحة: المشاريع تُنجز، لكن ليس للجميع، والمدن تُخطط، لكن فقط لمن يستطيع أن يدفع كلفتها، أما من لا يجد مكانا في هذه الحسابات، فمصيره هو النسيان، أو الترحيل القسري، أو البقاء في العراء.

في دول أخرى، حين يُهدم بيت، يُبنى آخر مكانه. أما في المغرب، فحين تُهدم الأحياء القديمة، لا تُبنى سوى المشاريع الفاخرة التي لا يدخلها إلا القليلون.

في ثلاث نيعقوب، كما في الرباط، كما في عشرات الأماكن الأخرى، الناس يُجردون من بيوتهم دون بدائل، لأن الدولة لا ترى فيهم شركاء، بل مجرد عقبات في طريق نموذج تنموي لا يكترث إلا بالأرقام والمشاريع الضخمة.

نحن أمام مغربين متناقضين: مغرب يتباهى بالمشاريع العملاقة، ومغرب يترك منكوبيه في العراء.

مغرب يبني الأبراج العالية، وآخر لا يجد سقفا يؤوي من فقدوا بيوتهم.

إذا كنت مغربيا ووجدت نفسك يومًا ضحية زلزال، أو فيضان، أو حتى قرار إداري، فاعلم أنك خارج الحسابات، لأن الدولة التي تقاتل من أجل الصعود الاقتصادي، لم تعد تملك الوقت للالتفات إلى من يسقطون من حساباتها.

في المغرب، نحن في العراء سواء!


يونس مسكين | كاتب صحفي مغربي
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل