قصة إسلام أبي سفيان بن حرب سيد قريش

د. علي الصلابي

بعد التجهيز لفتح مكة وخروج جيش المسلمين من المدينة، تابع رسول الله (ﷺ) سيره حتى أتى مَرَّ الظَّهْران، فنزل فيه عشاءً، فأمر الجيش، فأوقدوا النِّيران، فأوُقِدَت عشرةُ الاف نارٍ، وجعل رسولُ الله (ﷺ) على الحرس عمرَ بن الخطَّاب (الشامي، 1992، ص 387).

قال العبَّاس: فقلت: واصباح قريش! والله! لئن دخل رسول الله (ﷺ) مكَّة عَنْوَةً قبل أن يأتوه، فيستأمنوه: إنَّه لهلاك قريش إلى اخر الدَّهر! وركب بغلة رسول الله (ﷺ) ، وخرج يلتمس مَنْ يوصل الخبر إلى مكَّة؛ ليخرجوا إلى رسول الله فيستأمنوه قبل أن يدخلها عَنْـوَةً، وكان أبو سفيان، وحكيم بن حزام، وبُدَيْل بن ورقاء خرجوا يلتمسون الأخبار، فلـمَّا رأوا النِّيران؛ قال أبو سفيان: ما رأيت كاللَّيلة نيراناً قطُّ، ولا عسكراً، فقال بُدَيْل: هذه والله خُزاعة حمَشَتْها الحربُ، فقال أبو سفيان: خزاعة أذلُّ، وأقلُّ من أن تكون هـذه نيرانها،وعسكرها! وسمع العباس أصواتهم، فعرفهم فقال: يا أبا حنظلة! فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، قال: مَالَك؟ فداك أبي وأمي! قال العبَّاس: قلت: ويحك يا أبا سفيان! هذا رسولُ الله (ﷺ) في النَّاس واصباح قريشٍ واللهِ! قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي! قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربنَّ عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتَّى اتي بك رسول الله، فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي، ورجع صاحباه، فجئت به، كلَّما مررت بنارٍ من نيران المسلمين قالوا: مَنْ هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله (ﷺ) وأنا عليها؛ قالوا: عمُّ رسولِ الله على بغلته، حتَّى مررت بنار عمر بن الخطَّاب فقال: مَنْ هذا؟ وقام إليَّ فلـمَّا رأى أبا سفيان على عجز الدَّابة قال: أبو سفيان عدوُّ الله! الحمد لله الَّذي أمكن منك بغير عَقْدٍ، ولا عهدٍ، ثمَّ خرج يشتدُّ نحو رسول الله (ﷺ) ، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله! هذا أبـو سفيان، قد أمكن الله منه بغير عَقْدٍ، ولا عهدٍ، فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله! إنِّي قد أجرته.

فلما أكثر عمر في شأنه؛ قلت: مهلاً يا عمر! فوالله! أن لو كان من بني عديٍّ ما قلت هذا، ولكنَّك قـد عرفت أنَّـه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهـلاً يا عباس ! فوالله لإسلامُك يـوم أسلمت كان أحبَّ إلي من إسـلام الخطَّاب لو أسلم، وما بي إلا أنِّي قد عرفت أنَّ إسلامك كان أحبَّ إلى رسول الله (ﷺ) من إسلام الخطَّاب لو أسلم، فقال (ﷺ) : «اذهب به يا عباس! إلى رحلك، فإذا أصبحت؛ فائتني به».

فلـمَّا أصبح؛ غدوت به، فلـمَّا راه رسولُ الله (ﷺ) ، قال: «ويحك يا أبا سفيان! ألم يَأْنِ لك أن تعلم أنَّه لا إله إلا الله؟!» قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمَك، وأوصلَك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إلهٌ غيره لقد أغنى عنِّي بعد. قال: «ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أنِّي رسولُ الله ؟!».

قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك، وأكرمَك، وأوصلَك ! أمَّا هذه والله! فإنَّ في النَّفس منها حتَّى الان شيئاً. فقال له العبَّاس: ويحك! أسلم قبل أن تُضْرَب عنقُك، قال: فشهد شهادة الحقِّ، فأسلم.

قال العبَّاس: قلت: يا رسول الله! إنَّ أبا سفيان رجلٌ يحبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً، قال: «نعم! مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» فلـمَّا ذهب لينصرف قال رسول الله (ﷺ) : «يا عباس! احبسه بمضيق الوادي عند خَطْم الجبل، حتَّى تمرَّ به جنود الله، فيراها».

قال: فخرجت حتَّى حبستُـه حيث أمرنـي رسول الله (ﷺ) ومرَّت القبائل على راياتها، كلَّما مرَّت قبيلـةٌ ؛ قال: يا عباس! مَنْ هذه؟ فأقول: سُليم. فيقول: مالي، ولسُليم! ثمَّ تمرُّ به القبيلة، فيقول: يا عباس! مَنْ هؤلاء؟ فأقول: مُزينة، فيقول: مالي ولمزينة!… حتَّى مرَّ به رسول الله(ﷺ) في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون، والأنصار، لا يُرى منهم إلا الْحَدَقُ من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس! مَنْ هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله(ﷺ) في المهاجرين، والأنصار.

قـال: ما لأحـدٍ بهؤلاء قِبَـلٌ، ولا طاقـةٌ ! ثمَّ قال: والله يا أبا الفضل! لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً، قال: قلت: يا أبا سفيان! إنَّها النُّبوَّة. قال: فنعم إذاً، قال: قلت: النَّجاءَ إلى قومك. [البخاري (4280) وعبد الرزاق في المصنف (5/374- 378)، وابن سعد (2/134 – 137)، والبيهقي في الدلائل (5/32 – 35)، والمطالب العالية (4/244 – 246)، ومجمع الزوائد (6/164 – 167)، وابن هشام (4/44 – 47)].

إنَّ في هذه القصَّة دروساً، وعبراً، وحِكَماً في كيفيَّة معاملة رسول الله(ﷺ) للنُّفوس البشريَّة، ومن أهم هذه الدُّروس:

1 – عندما أصبح أبو سفيان رهينةً بيد المسلمين، وأصبح رهن إشارة النَّبيِّ(ﷺ) ، وَهَمَّ به عمر، وأجاره العبَّاس، ثمَّ جاء في صبيحة اليوم الثاني لِيَمْثُلَ بين يدي رسول الله(ﷺ) ، وكانت المفاجأة الصَّاعقة له بدل التَّوبيخ، والتَّهديد، والإذلال أن يُدْعى إلى الإسلام، فتأثَّر بهذا الموقف، واهتزَّ كيانُـه، فلم يملك إلا أن يقول: بأبي أنت وأمِّي يا محمد! ما أحلمَك، وأكرمَك، وأوصلَك! إنَّه يفدي رسول الله (ﷺ) بأبيه وأمِّه، ويُثني عليه الخير كلَّه: ما أحلمَك، وأكرمَك، وأوصلَك (الغضبان، د.ت، ص 564)! وعندما قال العبَّاس للنَّبيِّ (ﷺ) : إنَّ أبا سفيان رجلٌ يحبُّ الفخر، فاجعل له شيئاً، فقال النَّبيُّ (ﷺ) : «نعم! مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن..» ففي تخصيص بيت أبي سفيان شيءُ يُشْبِع ما تتطلَّع إليه نفس أبي سفيان، وفي هذا تثبيتٌ له على الإسلام، وتقويةٌ لإيمانه (زيدان، 1997، ص 2/403)، وكان هذا الأسلوب النَّبويُّ الكريم عاملاً على امتصاص الحِقْدِ من قلب أبي سفيان، وبرهن له بأنَّ المكانة الَّتي كانت له عند قريش لن تنتقص شيئاً في الإسلام؛ إنْ هو أخلص له، وبذل في سبيله (قلعجي، 1996، ص 245)، وهذا منهجٌ نبويٌّ كريمٌ على العلماء، والدُّعاة إلى الله أن يستوعبوه، ويعملوا به في تعاملهم مع النَّاس.


المراجع:

1. زيدان، عبدالكريم، (1997)، المستفاد من قصص القرآن للدَّعوة والدُّعاة، مؤسَّسة الرِّسالة، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1997م.

2. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج. 2، ط. 11، دار ابن كثير، 2021، ص. 380- 410.

3. الغضبان، منير، فقه السِّيرة النَّبويَّة، معهد البحوث العلميَّة وإحياء التراث، مكَّة المكرَّمة.

4. قلعجي، محمد، (1996)، قراءة سياسية للسِّيرة النَّبوية، دار النفائس، الطَّبعة الأولى 1416هـ 1996م، بيروت- لبنان.

1. الشامي، صالح أحمد، (1992)، مِنْ معين السِّيرة، المكتب الإسلامي، الطَّبعة الثانية، 1413هـ 1992م.


د. علي الصلابي | كاتب ومؤرخ إسلامي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل